كثيرة تلك الإسهامات الرائدة والمشاركات الحية الفاعلة في القضايا والموضوعات التي استغرقت د.مصطفي عبدالغني فكرا وبحثا وتحليلا وتفسيرا وطرحا جديدا ضمن مشروعه الفكري المتميز والذي يمتد في العمق الزمني لأربعة عقود خلت دأب خلالها علي ممارسة تنويعات تمحورت علي أصعدة عدة محققة أصداء قوية في ساحة النقد الأدبي والابداع المسرحي والتاريخ وأدب الرحلات والتراجم والأعمال الموسوعية وغيرها, ولعل هذا المشروع علي إجماله قد اعتمد ركيزتين كانت أولاهما قضية المثقف التي تعد أخطر وأعقد قضايا المجتمعات العربية في مسالكها نحو سبل النهضة والتقدم, أما الأخري فكانت قضية الوثائق التاريخية باعتبارها قضية أمن قومي ترتبط بالتراث والهوية وملامح المستقبل الذي باتت فيه حروب الثقافات أشد ضراوة من الحروب النووية!! ولقد جاء كتابه الأخير( ثورة مصر.. تحولات الفترة الانتقالية) تتويجا رائعا لمرجعيات هذا المشروع, ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه أو أول انطباع حول هذا الكتاب إنما يأتي من غلافه ذلك حين يلقي بالقارئ في فضاءات موحية تعني أول ما تعني أن الثورة مستمرة, ليس بالضرورة أن تكون هي الثورة الشعبية الجامعة لكل أطياف المجتمع وإنما بالضرورة هي معايشة الإنسان المصري لحالة الفعل الثوري علي الأحداث والأشخاص والأفكار والأشياء. وإذا كان الكتاب يمثل في جملته كل السرديات المرتبطة بواقع وأحداث الثورة فهو زاخر أيضا بكم هائل من التفصيلات والتشعبات ذات الدلالة التي يمكن معها القول إنه توثيق حي لمعطيات الثورة وآلياتها من قول وفعل وحركة ومؤامرة وخيانة. لذلك كانت فضيلة الكتاب هي اعتماده علي منهج رائد في تحليل الأحداث والنتائج وهو منهج الفيلسوف توبني إزاء حركة التاريخ فيما يسمي بالتحدي والاستجابة التي تمحورت ما بين فترتي25 يناير-30 يونيو وهو منهج لا تزال استخداماته تمثل حيزا كبيرا في الدراسات الغربية. ولعل أخطر ما تعرض له الكتاب أيضا هو الإشارة المستفيضة نحو زحزحة الهوية السياسية ومحاولات اغتيال الهوية الثقافية لمصر, وهو ما أنتج صراعا محموما في الوعي المصري بين السياسة والثقافة, وقد أبرز د.مصطفي ملامح هذا الاغتيال في نقاط عدة هي تفتيت المنظومة التعليمية, طمس مفهوم المواطنة, تقزيم العقل النقدي, ابادة الوثائق القومية, اشاعة خرائط التقسيم. وضمن أبرز ما أثاره الكتاب كذلك في مخيلتي إزاء تحولات المرحلة الانتقالية وصعود فئات باحثة عن مصالحها وتعمل علي سلب الآخرين حق الوجود وتتوج ذاتها بألقاب كثيرة علي غرار ناشط سياسي, خبير استراتيجي, مناضل ثوري بينما هم منفلتون من الحالة الثورية التي كانت تعيشها مصر آنذاك وهو ما يذكرني بأفكار الكاتب الانجليزي ولسن عن اللامنتمي. ويجول بنا الكتاب مقتحما اشكاليات كبري ومتخذا مسارا موضوعيا إزاء تفنيد ذلك السؤال الأجوف المصنع خصيصا للفتنة واحتدام الصراع هو:هل كانت ثورة أم كانت انقلابا طارحا لكل الرؤي والتوجهات علي تناقضها, ذلك بجانب ما طرح من مآخذ وأخطاء فادحة للمجلس العسكري في تلك الفترة الانتقالية التي مثلت ضرورة تاريخية يستفاد من معطياتها في كافة التجارب الوطنية. وبصفة عامة فلقد مثلت مسارات الكتاب علي اختلافها اضافات ثرية نحو الوعي الموضوعي بالثورة المصرية في اطار تحركها نحو ارساء واقرار مبادئ انسانية عامة, وكذلك اخضاع كل تفصيلاتها للسياق التاريخي, كما قدم الكتاب معالجات كاشفة لانتهازية التيار الاخواني ونجاحاته في الانقضاض علي تلك الثورة الشريفة, وهو ما يجسد بالفعل مقولة جيفارا من ان الثورات يصنعها الشرفاء ويحصدها الأوغاد!! ويبقي أن ننتظر من د.مصطفي كتابا مستقلا يترجم لنا فيه تفصيلات الدور الحيوي للقوة الغربية في تحريك ثروات الربيع وهي باقة جديدة للأجيال المقبلة.