إني أحب أن أستمع للأغاني والموسيقي الأجنبية, وأستمع للموسيقي الشرقية كثيرا. أحب أم كلثوم علي وجه الخصوص. هي مطربة مصرية مشهورة في كل أنحاء الشرق الأوسط وفي إسرائيل أيضا. سمعتها أول مرة منذ سنوات أثناء زيارتي للقدس. رغم موتها منذ سنوات, إلا أن كثيرا من الناس يسمعونها هناك. أنا أيضا أسمعها بكثرة. إنها عظيمة بحق. هذه الكلمات من حوار مع المغني الأمريكي العالمي, والشاعر بوب ديلون, والحائز علي جائزة نوبل عام2016, أجرته معه مجلة أمريكية عام.1978 بوب ديلون لا يعرف اللغة العربية أو الفن العربي, إذن ما الذي جعله يحب أغاني طويلة, وبغير لغته وغير مألوفة في ثقافته؟. ببيساطة شديدة هي عبقرية الموهبة الحقيقية, مثلها مثل كل الأشياء الحقيقية في حياة البشر. مثل أم كلثوم ومثل نجيب محفوظ الذي استطاع أن يعولم الرواية العربية. هي الموهبة التي تتعدي حدود الثقافة, وتقبلها الأرواح في كل مكان لأنها تخاطب الوجدان الإنساني. أم كلثوم هي محتوي مصر كله هي صوت مصر. مصر الحقيقية, الفريدة. مصر النسخة الواحدة في تاريخ البشرية كلها. عندما ذهبت أم كلثوم الي باريس عقب النكسة مساهمة منها في المجهود الحربي لتغني في مسرح الأولمبيك الذائع الشهرة, في الخامس عشر من نوفمبر1967 استمعت إليها فرنسا بكل جوارحها. تم الإعلان عن الحفلة في التليفزيون الفرنسي, وبناء عليه حضر الحفلة مئات الفرنسيين الذين لا يعرفون اللغة العربية, ولكنهم حضروا ليسمعوا بأرواحهم وليس بآذانهم. غنت أم كلثوم مثلما كانت تغني في مقتبل عمرها ثلاث وصلات, في الأولي إنت عمري, والثانية الأطلال, والثالثة فات الميعاد. سحرت أم كلثوم يومها فرنسا والدنيا كلها, وأسهمت في المجهود الحربي بدخل حفل لم يعهده مسرح الأولمبيك من قبل. غير أن الأهم في أدائها العبقري ذلك هو مساهمتها في شفاء النفوس المهزومة حينها, وانتشالها من الحفرة العميقة, ورفع معنويات العرب في كل مكان. هذه مطربة مصر العبقرية تمثلها بصوتها وروحها, وبالتالي فنحن كذلك: نستطيع الصمود ونستطيع الخروج من الحفرة وعثرتنا مؤقتة ونستطيع التغلب عليها, وقدراتنا البشرية هائلة, وأم كلثوم واحدة منا. كان هذا بالطبع هو الأهم. أرسل لها ديجول حينها برقية قال فيها: مرحبا بك في فرنسا, لقد حققت نجاحا عظيما, لقد لمست بصوتك سيدتي أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسين جميعا. وكتبت صحيفة لوموند حينها,: عندما تغني إلهة الفن المصري, تهتز الرؤوس من شدة النشوة مثلما يهتز جريد النخيل علي النيل. كانت أم كلثوم يومها صوت مصر وليست صوتا من مصر. هناك العديد من المقالات العلمية المتخصصة والعامة وكذلك رسائل الدكتوراه والماجستير, إضافة الي الكتب العامة وذات الطابع الخاص عن أم كلثوم بالمكتبات الغربية. وتعنيني اليوم الإشارة الي كتابين, الأول باللغة الإنجليزية, والثاني مكتوب أصلا بالفرنسية ومترجم للإنجليزية والعربية, يقدمانها للقاريء الغربي, سواء كان قارئا عاديا أو باحثا موسيقيا متخصصا. الكتاب الأول عبارة عن بيوجرافي لأم كلثوم, بعنوان: صوت مصر, أم كلثوم, الأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين, فرجينيا دانيالصن, الجامعة الأمريكيةبالقاهرة, وجامعة شيكاغو,.1997 يقع الكتاب في275 صفحة إضافة الي13 صفحة للعنوان وجدول المحتويات والمقدمة التمهيدية, يضم مقدمة وسبعة فصول, تمثل مجمل حياة أم كلثوم وفنها وتقدم فيها للقاريء الغربي أم كلثوم وعصرها ومكانتها في مصر والعالم العربي. الكتاب دراسة علمية دقيقة متخصصة ومستفيضة, ومرجع شامل عن أم كلثوم, استغرقت كتابته خمس سنوات كاملة وتطلب إقامة في القاهرةوالإسكندرية وغيرهما من المدن المصرية, أتاحتها لها حصولها علي منحة فولبرايت ودعم من مؤسسة روكفلر ودعم مكتبة جامعة هارفارد. تصف ذلك المؤلفة بقولها: كتابي حصيلة خمس سنوات في مصر, إضافة الي قراءتي الكثير عن ما هو مكتوب عن الموسيقي العربية وآدابها وفنونها. إضافة الي البحث عن المصادر الأساسية, والمعلومات المتوافرة, وطرح الأسئلة علي العديدين من الذين قابلتهم وتحدثت معهم إبان تلك السنوات الخمس في القاهرةوالإسكندريةوالمنيا.. وأثناء إقامتي بالقاهرة عملت مع الموسيقيين والعاملين في حقل الثقافة ومستمعي أم كلثوم من مختلف الطبقات.. وكنت محظوظة لإقامتي بالمنيا لمدة عامين حيث قابلت خلالهما أناسا بسطاء, وفيها تعلمت الكثير عن نظرة المصريين تجاه الفنون التعبيرية مثل الغناء. من المهم الإشارة هنا الي أن الكتاب يأتي أيضا بعد استكمال المؤلفة درجة الدكتوراه التي حصلت عليها من جامعة إلينوي عام1991, بعنوان الأغنية العربية: حياة أم كلثوم وكل مايتصل بفنها, رسالة دكتوراه, فيرجينيا لويس دانيالصن, جامعة إلينوي,.1991 من هنا فإن هذا الكتاب يضيف ويوثق ويكمل الكثير من جوانب فن وحياة كوكب الشرق, وهو بحق أهم ما كتب عنها في الشرق والغرب, بقلم باحثة من جامعة هارفارد حاصلة علي دكتوراه في أم كلثوم. تتحدث المؤلفة بإسهاب عن حياة أم كلثوم بداية من العشرينات وحتي وفاتها وتصفها بأنها بلا شك أهم مطربة عربية في القرن العشرين, ترصد عدد أغنيات أم كلثوم من خلال بحثها بما يقرب من الثلاثمائة أغنية عبر أكثر من خمسين سنة من الأداء المستديم.. تصف يوم الخميس الأول من كل شهر حيث كان حفل أم كلثوم الشهري: كانت الحياة تقف في كل أرجاء العالم العربي بسبب حفل أم كلثوم, وأنك لا تقرأ شيئا في الصحافة الصادرة في ذلك اليوم غير ما يخص أم كلثوم وحفلاتها وماذا سترتدي فيه, وأن الناس تعيش في عالم أم كلثوم في ذلك اليوم. تصف المؤلفة أم كلثوم بأنها قائد من قادة الثقافة العربية وشخصية عامة, وأنها انتخبت نقيبة للموسيقيين لمدة سبع سنوات, كانت دائما عضوة في اللجان الحكومية للفنون, عندما توفيت عام1975, كانت جنازتها أكبر من جنازة الزعيم جمال عبد الناصر الأسطورية كانت صوت ووجه مصر, وأنها ما زالت الي اليوم رمزا يعتد به في العالم العربي كله. تستمر المؤلفة في وصف أسطورة أم كلثوم ودورها في انتشار الثقافة المصرية من خلال أغانيها وأدائها الأصيل الذي أحبه العرب جميعا, وأنها عندما تغني فإنها لا تغني نفس السطر الواحد بنفس الطريقة مرة أخري. وأنها استطاعت خلق ثقافة غنائية فريدة خلال زمن طويل شمل الحربين العالميتين الأولي والثانية, وشمل ثورة1919 وثورة1952, وشمل مرحلة الكساد الاقتصادي العالمية والتغيرات الدرامية التي حدثت في عقدي الخمسينيات والستينيات, وأنها كانت خلال ذلك كله فنانة مصرية أصيلة, وأن مرجع نجاحها لم يقتصر علي صوتها الفريد فقط, ولكن يعود أيضا لشخصيتها الفذة, وأن المصريين لم يحبوا فقط صوتها ولكنهم كانوا يحترمونها, وأنهم عندما ينظرون الي وجهها, فإنهم ينظرون الي خمسين سنة من تاريخهم مسجلة في ذلك الوجه بفخر واعتزاز. تلخص الكاتبة شخصية أم كلثوم في إجماع الأمة علي محبتها واحترامها لها بقولها: كلما اتسعت دائرة معارفي في مصر لتشمل نقادا وكتابا وصحفيين ومدرسين, وأصدقاء وأقارب أم كلثوم, والأصدقاء المقربين لي, والذين عرفتهم والأصدقاء الذين عرفتهم معرفة عابرة, وأصدقائي من نساء المنيا والقري المحيطة, وأزواجهم والأطفال وعائلاتهم, ومعارفي من أصحاب المهن والحرف, وأصحاب المحال التجارية والطلاب والمثقفين في الإسكندرية, والأصدقاء والجيران في القاهرة, باختصار شديد جميع البشر الذين يشكلون تجربتي وحياتي اليومية في القاهرة ومحافظات مصر خلال سنوات إقامتي, هؤلاء جميعا دائمو الحديث عن أم كلثوم, وهم الذين وسعوا مداركي وفهمي وأضافوا لما فهمته عنها من الموسيقيين ومن معارفها, إضافة الي طفولتها وبداية رحلتها الفنية في القاهرة, وموسيقي القاهرة حينها, وبداية التعليم الموسيقي لأم كلثوم وأدائها, ونقطة التحول في حياتها. تتطرق المؤلفة بعدها لحفلات أم كلثوم, وتسجيل أغانيها, ومرحلة تمثيل الأفلام. وأم كلثوم في فترة الأربعينيات والتي تعتبر العصر الذهبي لها, حيث قدمت خلال سنوات تلك الحقبة غناء العديد من القصائد لكبار شعراء مصروأهمهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد رامي وبيرم التونسي. أفردت المؤلفة الفصل السادس من الكتاب لشرح وتحليل صوت أم كلثوم وجلائه وقوته وتميزه. كما تقدم للقاريء الغربي تحليلا لبنيان الموسيقي العربية وفنونها وصعوبتها ومقاماتها, إضافة الي طرق الأداء المختلفة. خصصت المؤلفة الفصل السابع للأغنية الوطنية, ورابعة العدوية وبداية التعاون بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي وسيد مكاوي الي جانب رياض السنباطي وزكريا أحمد. تصف المؤلفة أم كلثوم بأدائها وعظمة صوتها وتصفه بأنه يحدث حالة من الطرب والنشوة وسمو العاطفة لدي السامعين سواء في المسرح أو سماعه في الإذاعة أو مشاهدتها في التليفزيون. لم يقتصر دور أم كلثوم علي الغناء والطرب, ولكنها في نظر المؤلفة أحدثت تغييرات في تفكير المجتمع المصري الذي أحبها واحترمها وبالتالي ارتفعت قيمة الفنان بين طبقات الشعب وزاد احترامه له من خلال شخصية أم كلثوم, كما ارتفعت قيمة الإنسان البسيط كونها دائمة الذكر والوصف لنفسها أنها أتت من قرية مصرية. إضافة الي ذلك, استطاعت أم كلثوم من خلال روعة أدائها أن تجعل البسطاء يرددون أبيات الشعر الصعبة ويتذوقونها ويفهمونها. كانت أم كلثوم نموذجا للأصالة المصرية وكانت دائمة الذكر أنها فلاحة من مصر, وكانت تتحدث عن ذلك بفخر. ترصد المؤلفة ذلك من خلال مقابلات أم كلثوم المنشورة في مجلة الكواكب في لقاء مع الناقد والكاتب رجاء النقاش عام1965, وتقول: لا بد أن نحترم أنفسنا وفنوننا. خذ علي سبيل المثال الهنود, إنهم يحترمون هويتهم الفنية. أينما كانوا يصرون دائما علي ارتداء ملابسهم القومية سواء في فنونهم أو في حياتهم العادية. من أجل هذا فإن موسيقاهم تعتبر واحدة من أجمل أنواع الموسيقي في العالم. هذا ما يجب أن تكون عليه طريقتنا إن أردنا النجاح. وفي حديث آخرمع مصطفي زكي في كتابه: أم كلثوم, معبد الحب, دار الطباعة الحديثة,1975, صفحة64, حيث تقول: موسيقانا يجب أن تعبر عن روحنا الشرقية. من المستحيل أن نقدم للمستمعين فنا أجنبيا, لأنهم لن يقبلوا ذلك. إذا كان هذا مقبولا في فن الرسم الذي يعتمد علي التذوق الأوروبي, فإن ذلك ممكن لأن جمهوره محدود, وغالبيته من المثقفين. غير أن الغناء والموسيقي تجذب الجماهير من كل طبقات الشعب وكل مستويات التعليم. أولئك الذين يتعلمون الموسيقي الأوروبية يتعلمونها مثلما يتعلمون اللغات الأوروبية. بالطبع هذا مفيد, ولكن من السخف أن تكون اللغات الأوروبية هي لغتنا ترصد المؤلفة أنه في التسعينيات من القرن العشرين, كانت أم كلثوم تحظي بجمهور من المستمعين أكبر من أي جمهور إبان حياتها, كما أصبحت تحظي باهتمام دولي, وأن أغانيها أصبحت متوافرة في غالبية أرجاء العالم في المتاجر التي تبيع التسجيلات الموسيقية. كما ساعدت الإنترنت علي انتشار أعمالها وأتاحتها في كل مكان من العالم بيسر وبطريقة لم تكن متوافرة من قبل. كما أنها مازالت ذات حضور مؤثر في الثقافة المصرية وستظل. ربما يكون وصف الكاتبة وتشخيصها العام لأم كلثوم هو الأكثر تعبيرا ووصفا ونمذجة لها: أم كلثوم مطربة في براعة المطربة الأمريكية إليا فيتزجيرالد, وشخصية إليناور روزفيلت, وحضور ألفيس بريسللي. وهو وصف لائق من باحثة تعمل في جامعة هارفارد. تختم المؤلفة كتابها بقولها: تظل أم كلثوم وفنها, حتي وقتنا الحالي نموذجا يحتذي به, ويقاس به بقية الفنانين, مثلها مثل جمال عبدالناصر, كلاهما ينتميان الي عصر وزمن حلو يشوبه كثير من المرارة, الكثيرون من الناس غالبا ما يحنون الي ذلك الزمن ويذكرونه باحترام شديد, وكلاهما يحظي بحب واحترام الطبقة العاملة البسيطة في مصر, وكلاهما يمثل القيمة والقوة والدافع لنهضة المجتمع والثقافة. هؤلاء المستمعون يشتاقون الي ذكريات الخمسينيات. الكتاب الثاني عن أم كلثوم عبارة عن رواية تاريخية كتبها الأديب فرنسي من أصول عربية أسمه سليم نسيب باللغة الفرنسية عام1994 بعنوان: Oum,SurlesAmoursdOumKalthoumetDuPoeteAhmedRami,SelimNassib1994 وتمت ترجمتها الي اللغة الإنجليزية بعنوان مخالف: أحببتك لصوتك, نشر عام2006, وترجمته للإنجليزية أليسون أندرسون. LOVEDYOUFORYOURVOICE,SelimNassib,TranslatedfromFrenchbyAlisonAnderson,EuropaEditions.2006 وتمت ترجمتها أيضا الي العربية ونشرها بعنوان مخالف: كان صرحا من خيال فهوي, هوعنوان مشتق من سطر من أغنية الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي, ترجمة بسام حجار, دار العين للنشر,.2010 تقع الرواية في الترجمة الإنجليزية في255 صفحة ويصفها النقاد الغربيون بأنها من روائع الأدب العالمي وأنها تغمر القاريء في فتنة العالم العربي وسحره, وتحظي بقبول كبير لدي القراء في الغرب, لأنها تحوي كثيرا من المعاني الإنسانية والدرامية الراقية. الرواية عبارة عن قصة رجل أحب امرأة تحب موسيقاها ووطنها, وعالم بكامله يحب تلك المرأة.. القصة مبنية ومشتقة من حياة أم كلثوم, بنت القرية التي جعلتها موهبتها أهم فنانة في مصر, وأكثرهم شهرة في الوطن العربي كله. القصة عاطفية تروي من خلال أحمد رامي الشاعر الذي أحبها بدون رجاء. الرواية لم تذكر صراحة, أسمي الشاعر والمغنية في الرواية, غير أن المعني بهما أحمد رامي وأم كلثوم. الرواية تشمل علاقتهما منذ لحظة لقائهما في شبابهما منذ أن قابلها الشاعر أول مرة وحتي مماتها. الكاتب يصف هوس الشاعر بالمغنية وتأثيرها المحطم لحياته. علي حد وصف المؤلف في الرواية علي لسان أحمد رامي: شعري يعبر عن شوقي, وهذا الشوق يصير في حنجرتها شوق الوطن كله. صوتها يحوي الاحتدام والألم والحنين لعالم لم يحن وقته بعد, وعالمنا الذي فشل لكل منا. لقد مددنا أيدينا الي اللانهاية لتلتقي حول الرغبة النقية. في الرواية يكتب الشاعر قصائد يائسة تغنيها المحبوبة فتصبح مشهورة ويصبح هو مثيرا للشفقة. وعندما تتركه زوجته في القصة, في نهاية المطاف تترك له جملة غاضبة, معبرة عن عدم رضاها عن العلاقة بين الشاعر وأم كلثوم: أغنية واحدة تكفي.