أجمع العلماء علي الشريعة الإسلامية علي ضرورة الابتعاد عن السلوكيات التي تضر بالاقتصاد بأي من صور الاستغلال المختلفة أو الخداع حفاظا علي الأمن الاقتصادي للمجتمع لا سيما في الظروف الخاصة التي تتعرض لها البلاد من ارتفاع أسعار السلع, فقالوا إنها وحذرت من الاحتكار بكل صوره, ودعت لنشر خصال التراحم والإيثار, وتقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة, وكل ما يكون وسيلة لتوفير أقوات الناس. كما أن الله جعل من الابتلاء اختيار للإنسان ليعلم سبحانه وتعالي الصابر والشاكر. وهذا الابتلاء ليس له حدود ولا زمان ولا يمنعه موقع ولا مكان. والمحن والأزمات التي يواجهها الانسان هي نوع من أنواع الابتلاءات التي يبتلي الله بها عباده, ولها فوائد عظيمة يريدها الله كتمحيص الذنوب ومعرفة الصابرين والدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل. ودعوا إلي ضرورة أن يتخلص كل مصري من الازمات التي تمر بها مصر ومنها فساد الضمير والجشع وتقلص الإيثار, وحصار فرضه الدولار, غير أن ما يبشرنا به النبي محمد صلي الله عليه وسلم أن الله تعالي قد جنب الأمة القحط والهلاك. عبدالله القاضي: فساد الضمير سبب مشكلات المجتمع يقول الشيخ عبدالله القاضي- داعية إسلامي وباحث في علوم الشريعة: إن عامة مشكلات المجتمعات والأفراد ترجع في أصلها لفساد الضمير, والضمير قوة ذاتية, إذا كان سليما ساد السلام, وإذا خرب الضمير فلا تسأل عما قد يلحق بالأفراد والأمم, ويكفي أن فساد الضمير آفة متعدية دائما, تظهر آثارها السلبية, بل والكارثية في من يساكنه. والغلاء من المشكلات الناتجة عن فساد الضمائر, وأهم من الخوض في موقف الأجيال الفاضلة من الغلاء التأكيد علي أمرين, الأول: أنه ليس من الحكمة ولا من الأمانة تقاذف المسئولية وتبادل الاتهامات بين الأطراف, وقد وجه النبي, صلي الله عليه وسلم, في حديث عظيم جامع لمعاني الخير ودافع لمعاني الشر إلي أن يتحمل كل فرد مسئوليته, فقال: كلكم راع فمسئول عن رعيته, وذكر النبي, صلي الله عليه وسلم, الأمير أولا لعظم مسئوليته, ثم الرجل والمرأة وحتي الخادم( متفق عليه), ويدخل في هذا الحديث التاجر الجشع, والذي كلما عظمت تجارته عظمت مسئوليته, ويدخل فيه أيضا المسابق لحيازة سلعة وهو غني عنها, يحتكرها ويمنعها عن الناس وهو يعلم أنه بذلك يحرم المحتاج لها. الأمر الثاني-كما يقول القاضي- هو مترتب علي الأول, وهو أن التكافل والتكاتف طريق الأمم لرفع البلاء والضر في الأزمات; إذ التكاتف والتكافل لا يجدي نفعا أبدا مع وجود خرق في المسئولية, فإذا علم كل إنسان أنه محاسب أمام الله تعالي ومجزي بما عمل, فقام بمسئوليته وأدي ما عليه, فليعلم أيضا أن الله يجزي بالإحسان إحسانا, وأنه يعين مبتغي الخير علي مسئوليته, ويسخر له ما صعب علي غيره, من الغلاء وضيق المعايش وغير ذلك. د. عبد الفتاح إدريس: حصار فرضه الدولار يري الدكتور عبد الفتاح ادريس أستاذ الفقه أن أزمات طاحنة مرت بالمسلمين لعلها مثل ما يتعرض له المسلمون من حصار في شعب أبي طالب ألجأهم إلي أكل أوراق الشجر, ولكن كانت تأتيهم بين الفينة والفينة مواد غذائية حيث يقيمون في هذا الشعب من أقاربهم في مكة الذين كانوا يستترون تحت جنح الظلام لإيصال الطعام والشراب إلي هؤلاء المحاصرين, ولكن كل واحد منهم لم يكن يستأثر بما يصله باعتبار أن هذا الذي كان يأتيهم إنما كان يسلم إلي صاحب القرابة ممن كان يأتيهم من مكة, ومع هذا يأخذ حاجته ثم يدع ما فضل عن حاجته إلي باقي المسلمين المحاصرين, ونحن في مصر لم نبتل بالحصار, ولكن ما يمر به المجتمع هو حصار فرضه الدولار بسبب الجشع الذي سيطر علي قلوب بعض أصحاب الضمائر الخربة, ولم تجد معهم صرخات الغلاء من ارتفاع الحاجات الضرورية. هؤلاء المحتكرون معروفون بالاسم ويجب ألا يتركوا ليعيثوا في الأرض فسادا ليفسدوا الأخضر واليابس ويتركوا الناس طحنا في خضم الارتفاع المتصاعد للأسعار باحتكار السكر وغيره من المواد الغذائية وبعض أنواع الأدوية الاستراتيجية كمواد البناء, لذا نطالب الدولة بأن تقدمهم للمحاكمة. عبدالمنجي مدين: إذا وجد الجشع تقلص الإيثار يقول الشيخ عبدالمنجي مدين- من علماء الأزهر الشريف- يقول إذا وجد الجشع والطمع, وإذا ضعفت المراقبة, وإذا تقلص الإيثار بين المجتمعات, فلا بد من إعادة النظر في أولويات الأمة, ذلك لأن الله بين أن ذلك بما كسبت أيدي الناس, والله لا يظلم أحدا, ونظرة المسلم المتفحص إلي الواقع الإسلامي في عهد السلف, يتبين لنا العلاج الناجع في مثل هذه الأحوال والظروف, ولماذا الذهاب بعيدا عن معترك التراث فقد ذكر أصحاب السير أن حياة عمر بن الخطاب, وهو من هو عدالة وأمانة قد حدث في وقته ساعة أن كان أميرا للمؤمنين مجاعة في المدينة عاصمة الخلافة والحجاز, فاتخذ تدابير حتي تمر الأمة من كبوتها التي حلت بها منها: حث الناس علي اللجوء إلي الله, فكان يدعو الله حتي كاد لسانه أن ينقطع ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين يعني القحط- وارفع عنا البلاء, يردد هذه الكلمة. كما طلب الإعانة من الولايات التابعة للخلافة كمصر وغيرها من البلدان التي لم تلحقها المجاعة, حتي يرتفع هذا الغلاء ومساعدة الدول المسلمة لإخوانهم المسلمين ليست بدعا, فقد كتب عمر بن الخطاب إلي عمرو بن العاص والي مصر طالبا الإغاثة, فقال له: يا غوثاه! يا غوثاه! أنت ومن معك ومن قبلك فيما أنت فيه, ونحن فيما نحن فيه. فأرسل إليه ابن العاص قافلة محملة بالطعام والشراب والكساء. كما دعا عمر بن الخطاب الناس إلي العمل وزيادة الإنتاج, وحرص علي توفير السلع بأنسب الأثمان, ومنع الاحتكار, وقد سئل, صلي الله عليه وسلم, لما قالوا له: سعر لنا, فقال صلي الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر, القابض, الباسط, الرازق, وإني لأرجو أن ألقي ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال. فالمسألة لم تصل بعد إلي حد الضرورة, والنبي, صلي الله عليه وسلم, كان يرجو التفريج وهذا ما حصل. ويضيف مدين: قال صلي الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطئ, ومعني الخاطئ: العاصي الآثم. وليس للربح في الشريعة أصلا حد معين, ولكن إذا كان للسلعة سعر معروف في السوق, فلا يجوز للبائع أن يخدع مشتريا جاهلا أو مغفلا ونحو ذلك, فيرفع السعر ليظنها أصلية, أو لأنه لا يعرف سعر السوق أصلا إذا رفع عليه رفعا فاحشا; فهذا خيار الغبن الذي يجوز بموجبه للمشتري رد السلعة رغما عن البائع وأخذ الثمن. فلو التزم المسلمون بهذا لما كان منهم أحد, ولا عاني أحد من غلو الأسعار أو قلة السلع المعروضة, لا سيما في ظل علو صوت من يكيد للبلد ولا يرقب في أهلها إلا ولا ذمة, خاصة أن ذئاب الغدر تحاول الانقضاض علي أطرافها.. بل هو مكر الليل والنهار والله غالب علي أمره, وليس لنا إلا أن نردد ما ردده الشيخ الشعراوي يوما: فكيف كنا نفسر قوله: ويمكرون ويمكر الله والله خيرالماكرين.
الشيخ عبد الناصر بليح: لسنا في سنوات عجاف.. والأزمات تحتاج إلي سلوك استثنائي يؤكد الشيخ عبد الناصر بليح وكيل أوقاف الجيزة: أننا لسنا في سنوات عجاف, ولكن ينبغي أن نتعامل معاملة يوسف معها وننظر كيف خطط له نبي الله يوسف عليه السلام من مضاعفة الإنتاج وتقليل الاستهلاك, لأن الأزمات والظروف الاستثنائية تحتاج إلي سلوك استثنائي, ولأن سلوك الناس في الأزمات غير سلوكهم في الظروف العادية, استرخاء وبطالة, فإن هذه الأمة تكون في حالة خلل خطير يحتاج إلي علاج ومعالج خبير. وما يتطلبه فقه الضروريات الآن من توجيه طاقتنا لتوفير ضرورات الحياة دون إسراف في الموارد كما فعل سيدنا يوسف لقوله تعالي( فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون) فلا يعقل أن نجد من ينفق ببذخ علي كل شيء ويستورد بالدولار مساحيق التجميل والكفيار وأكل القطط والكلاب وأشهي الأطعمة.. حتي يرتفع سعر الدولار إلي ما وصل إليه.. وفي المقابل نجد أكثر من ثلاثة أرباع الشعب يتأثر بارتفاع الدولار. فإذا أردنا أن نطبق نظرية سيدنا يوسف عبقري الاقتصاد الأول الذي أشار عليهم بتقليل ما يأكلون في سنوات الخصب لادخار ما فضل عن ذلك لزمن الشدة, فقال( إلا قليلا مما تأكلون). فأين نحن من هذا المنهج ونحن يعيش بيننا من هم في رغد من العيش ويتسببون في قحط شديد لهم وللمجتمع مما يتطلب الأخذ بنظرية نبي الله يوسف التي لم تكتف بالإجراء الاحتياطي في زمن الرخاء قبل أن تبدأ الأزمة بسبع سنوات, بل أخذ بالاحتياط والتدابير اللازمة خلال فترة الأزمات, فقال:( ثم يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) فهؤلاء المبذرون الذين أسرفوا علي أنفسهم سيتسببون في قحط عن قريب, وهذا يعني أن المدخرات وإن قلت ستبقي بعد انتهاء الأزمة الطويلة عبر عملية الإحصان, وأن هذا الإحصان لم يكن في زمن الرخاء, وإنما كان في زمن الشدة, حيث إن الاحتمال الضعيف جدا تم مراعاته, وهو أن سنة الإغاثة قد لا تكون السنة التي تلي سابعة السنوات الشداد, وإن كانت الرؤية أن الأزمة ستنتهي بانتهاء السابعة. كما أن الاصلاح الاقتصادي لا يكون بدون الإصلاح الإداري لقوله تعالي: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.., وهذا نهي وتحذير في نفس الوقت.. فالفساد بعد الإصلاح مصيبة ما بعدها مصيبة. فما بالنا بإصلاح متلبس بالفساد ومهما يحدث من إصلاح اقتصادي فسوف يلتهمه أباطرة الفساد.. تماسيح الرشاوي والاختلاسات.. حيتان الاحتكار.. وجواميس متهربي الضرائب.. وأفيال تسقيع العقارات.. حمير الغش التجاري دون رقيب. د. علي الله الجمال: من نعم الله عليالأمة الإسلامية أن جنبها القحط والهلاك يوضح الدكتور علي الله الجمال- من علماء وزارة الاوقاف- ان من النعم والمنن الكبري التي أنعم الله بها علي الأمة الإسلامية أن جنبها القحط والهلاك لماورد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلي الله عليه وسلم: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ومعني أن لا يهلك أمتي بالسنة أي بالقحط العام, فلن تموت الأمة جوعا ببركة دعاء رسول الله. ويقول إن التعامل مع السنين العجاف يكون بترشيد الاستهلاك في المياه والكهرباء, مع الاقتصاد في الطعام والشراب, ويكون ذلك أيضا باتباع المنهج الرباني والاستقامة عليه فهذا أكبر سبب لضمان الرخاء الاقتصادي والبركة والنماء, وهذا يتحقق عند ملازمة الاستغفار قال تعالي في قصة نوح عليه السلام( استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا), ويتحقق أيضا عند شكر المنعم سبحانه قال تعالي:( لئن شكرتم لأزيدنكم). وقد شرحت سورة يوسف عليه السلام سياسات التنمية الاقتصادية وبينت كيفية مواجهة الأزمات الاقتصادية, وسد العجز في المحاصيل الزراعية, ومراعاة أسس وقواعد التخزين السليمة, كما علمتنا سورة يوسف أيضا ترشيد الاستهلاك, وتقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة, وحسن التخطيط, وعلمتنا سورة يوسف أن اختيار الكفاءات وأهل الأمانة من عوامل نجاح الاقتصاد, قال تعالي علي لسان يوسف عليه السلام( قال اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وكان ذلك المشهد العظيم علي أرض الكنانة أرض مصر المحروسة. وقد اتخذ عمر رضي الله عنه العديد من المواقف التي يحتذي بها ومنها أنه دعا الله وصلي صلاة الاستسقاء عدة مرات, ولم يكتف بهذا بل واسي رعيته في المجاعة فكان مثلا يحتذي به بامتناعه عن أن يذوق اللحم والسمن إلا بعد أن يتذوقه عامة الناس وأخذ يأكل بالزيت حتي تغير لونه, ثم طلب الغوث والإعانة من الأقاليم المجاورة. مع العلم بأن المرء يبتلي علي قدر دينه وإيمانه, فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله, أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, فيبتلي الرجل علي حسب دينه, فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه, وإن كان في دينه رقة ابتلي علي حسب دينه, فما يبرح البلاء بالعبد حتي يتركه يمشي علي الأرض ما عليه خطيئة). وعن سماك قال: سمعت النعمان بن بشير, يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم صلي الله عليه وسلم وما يجد من الدقل, ما يملأ به بطنه وهو ردئ التمر.