بين كل أوجه شظف العيش رأيتها, المرأة الفيومية السمراء تكدح تحت شمس قائظة يتحملها الرجال بصعوبة, وتعود آخر اليوم إلي بيت صغير تقوم علي خدمة أهله بلا ماء جاري نظيف ولا صرف صحي ولا كهرباء, وعلي بعد كيلومترات قليلة منها تعيش نساء في مدن تتدفق فيها المياه من الصنبور, وتقدن السيارات أو حتي المواصلات العامة لأعمالهن أو ربما لأحد النوادي يلتقطن بعض الراحة ويشكين صعوبة الحياة طوال إقامتي في قري الفيوم كانت عيناي تبحث عن نسائها اللاتي توقعت أنهن يعشن ظروفا قاسية, ولم يخب ظني: فرغم الابتسامة التي لاحظتها علي الوجوه إلا أن الأيدي الشقيانة كانت تروي حكايات الصبر في كل مكان عند إحدي القري توقف الميكروباص الذي كنت أستقله للذهاب إلي المنطقة الصناعية علي أطراف الفيوم, وبدأت أم هاشم السيدة الخمسينية في حمل أقفاص الخضار التي كانت تزحم السيارة التي اكتشفت أن سطحها أيضا كان محملا بمزيد من أقفاص الكتاكيت والفاكهة, ساعدها الركاب بشهامة بينما كنت استمع لقصتها, قالت زوجي مريض وأعول5 أبناء في مراحل التعليم المختلفة, لم أجد لبضاعتي زبائن في قريتي الفقيرة فقررت السفر بها إلي المراكز والقري الأيسر حالا, أضطر للخروج من بيتي في الظلام قبل شروق الشمس لركوب5 مواصلات مختلفة للوصول إلي زبائني الذين ينتظرونني كل صباح فأحمل لهم احتياجاتهم من الفاكهة والخضر والدواجن وأظل أتنقل بينهم حتي يحل الليل فأعود بما تبقي من بضاعة إلي قريتي بنفس الطريقة, والحمدلله فإنني أكسب يوميا50 جنيه تقريبا أنفقها كلها علي طعام أبنائي وعلاج زوجي أم كريم سيدة منتقبة كانت تحصد الذرة الصيفي في أحد الغيطان, تمرح حولها بناتها الأربع أكبرهن أماني11 سنة وأصغرهن فاطمة5 سنوات, قالت زوجي يعمل فلاحا بالأجرة في هذه الأرض يفلحها ويزرعها طوال العام مقابل جنيهات محدودة ونسبة من المحصول, فلا بد أن أشاركه العمل حتي يزيد الخير ليكفي بناتي اللاتي حرصت علي إلحاقهن جميعا بالتعليم, وفي أجازتهن الصيفية يشاركننا العمل في الغيط وفي أثناء الدراسة يسرعن إلي الغيط فور انتهاء اليوم الدراسي, بالتأكيد بيصعبوا عليا في الجو دة, بس نعمل ايه آدي الله وآدي حكمته وفي يوم جني القطن تعرفت علي أم مريم, ومريم هذه هي أصغر طفلة عاملة رأيتها في حياتي, فرغم سنوات عمرها التي لا تزيد عن الأربع ألبستها أمها كيسا من القماش حول رقبتها لتجمع فيه القطن, قالت أم مريم زوجي هو الخولي أستيقظ معه قبل بزوغ الشمس ونمر علي القري نجمع الأطفال الذين سيشاركون في جني القطن ونحضرهم إلي الغيط حتي يستطيعون الانتهاء من عملهم قبل أن تشتد حرارة الشمس, ودوري إلي جانب جني القطن هو الاهتمام بالأطفال ومناولتهم الماء وبعض الطعام أثناء عملهم, وعندما اضطررت لاصطحاب مريم معي قمت بتعليمها الجني وأصبحت تعمل مثلها مثل الأطفال الذين يتقاضي كل منهم20 جنيها في اليوم بغض النظر عن عمره, ليس أمامنا اختيارات أخري لمواجهة الغلاء فأنبوبة الغاز تباع هنا في القرية ب70 جنيها! أما حنان التي اقتطعت غرفة من بيتها حولتها إلي محل بقالة صغير فقالت تلقيت تعليما متوسطا وزوجي يعمل موظفا في الأوقاف, غلاء المعيشة والملل دفعاني للتفكير في عمل أي شئ لمساعدة أسرتي الصغيرة, ولم أجد أي فرصة هنا للعمل فاقتطعت من بيتي هذه الغرفة واشتريت بعض المستلزمات التي يحتاجها أهل القرية حتي لا يضطرون للذهاب بعيدا, لكن للأسف القدرة الشرائية لأهل القرية ضعيفة جدا مما جعلهم يستغنون عن شراء أبسط الأشياء, ولولا العمال الذين يعملون في محطة الكهرباء القريبة ويضطرون لشراء احتياجاتهم من عندي لما بعت شيئا طوال اليوم ولاء شابة في الثانية والعشرين من عمرها وأم لطفلين قالت: لن تجدي في قري الفيوم نساء جالسات في بيوتهن فصعوبة العيش لا تسمح بذلك, أنا أعمل في الغيط جنبا إلي جنب زوجي, لم يعد بوسعنا حتي تربية الدواجن في البيوت, ففي الماضي كنا نلقي لها بفائض الطعام أما الآن فإننا بالكاد نجد طعاما للأسرة, وبالتأكيد لم يعد في الإمكان شراء علف للحيوانات, شيكارة الدشيش ب160 جنيها فتوفير طعام للأبناء أولي... إحنا بنطبخ كل يوم سبت يا أستاذة