حفلت الهجرة النبوية بكثير من الدروس والعبر التي لو طبقها المسلمون في حياتهم لتغيرت أحوالهم من الهزيمة إلي النصر علي عدوهم وتبدلت حياتهم وصارت لهم القوة والعزة في الأرض. فكان التخطيط والاخذ بالأسباب ورد الأمانات لأهلها رغم اجتماعهم علي قتله صلي الله عليه وسلم بضربة سيف من رجل واحد حتي يتفرق دمه الشريف بين القبائل فلا تستطيع عائلته الثأر له, فلم يلتفت لتلك المكائد واستعان بخالقه وخطط لهجرته واستعان بمن يمده وصاحبه بالاخبار ومن يرشدهما لأقصر الطرق وأفضلها فكانت الاستعانه بيهودي علي علم بدروب الصحراء وهو عبدالله بن أريقط ليؤكد صلوات الله عليه أن الخبرة والعلم والدقة في التخطيط هامة لنجاح أي عمل وهو ما تحقق علي ارض الواقع واستطاع بناء دولة قوية في زمن لا يتجاوز20 عاما. يقول الدكتور عبدالله عزب أستاذ العقيدة والفلسفة ووكيل كلية أصول الدين بالقاهرة إن الهجرة النبوية من مكة إلي المدينة كانت ومازالت حدثا تاريخيا عظيما, ليس كأي حدث, فقد كانت حدا فاصلا بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية; هما: المرحلة المكية التي ركزت علي الدعوة إلي توحيد الله عز وجل, والمرحلة المدنية التي اهتمت بالتشريع, وإذا كانت عظمة الأحداث تقاس بعظمة ما جري فيها والقائمين بها, فقد كان القائم بهذا الحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله صلي الله عليه وسلم ولقد غيرت هجرته مجري التاريخ, وحملت في طياتها معاني التضحية والصحبة, والصبر والنصر, والتوكل والإخاء, وجعلها الله طريقا للنصر والعزة, ورفع راية الإسلام, وتشييد دولته; قال الله تعالي: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم, التوبة:40]. وانتهت رحلة الهجرة بما فيها من مصاعب وأحداث, ليصل النبي صلي الله عليه وسلم إلي أرض المدينةالمنورة, وفضلا عن كون الهجرة النبوية الشريفة انطلاقة لبناء دولة الإسلام, وإعزازا لدين الله تعالي, وفاتحة خير ونصر وبركة علي الإسلام والمسلمين, فإنها كذلك تجب ما قبلها من الذنوب كما قال النبي صلي الله عليه وسلم لعمرو بن العاص أما عملت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله, وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها كما أن الله وعد الله المهاجرين في سبيله الأجر العظيم, والهجرة انتهت علي القول الراجح بعد فتح مكة كما أخبر بذلك النبي صلي الله عليه وسلم حيث قال إنه لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية, وللهجرة هدف ويستفاد منها دروس وعبر, لا تنتهي ولا ينقطع أثرها, وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل. ويضيف الدكتور عبدالله عزب أن الهدف من الهجرة هو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلي مرحلة الدولة, والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلي مرحلتين: مرحلة العهد المكي الذي يمثل الدعوة ومرحلة العهد المدني يمثل مرحلة الدولة, وكان بين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة; لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مرحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلي مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم, ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة, إلي دعوة أصبحت شريعة ودولة, ومن دعوة أتباعها قلة مستضعفون إلي دعوة أتباعها سادة فاتحون. فما أحوج المسلمين اليوم إلي هجرة إلي الله ورسوله: هجرة إلي الله بالتمسك بحبله المتين, وهجرة إلي رسوله صلي الله عليه وسلم بإتباع سنته, والاقتداء بسيرته, فإن فعلوا فهم يأخذون بأسباب النصر, وما النصر إلا من عند الله, والناظر في الهجرة النبوية يجد فيها دروسا عظيمة, يستفيد منها الأفراد, والجماعات والأمم ومنها أولا ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل علي الله: ويتجلي ذلك من خلال استبقاء النبي صلي الله عليه وسلم لعلي وأبي بكر رضي الله عنهما معه; حيث لم يهاجرا إلي المدينة مع المسلمين, فعلي رضي الله عنه بات في فراش النبي صلي الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة, ويتجلي أيضا في استعانته بعبد الله بن أريقط الليثي, وكان خبيرا ماهرا بالطريق, ويتجلي كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسة, ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم, ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتا إليها, بل كان قلبه مطويا علي التوكل علي الله عز وجل. كما أن الإخلاص والسلامة من الأغراض الشخصية كانت من الدروس المستفاده ايضا ففي يوم خرجه صلي الله عليه وسلم من مكة مكرها لم يخنع, ولم يذل, ولم يفقد ثقته بربه, ولما فتح الله عليه وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهوا, ولم يتعاظم تيها; فعيشته يوم أخرج من مكة كارها كعيشته يوم دخلها فاتحا ظافرا. وأعطت الهجرة في حقيقتها درسا واضحا في اليقين وأن العاقبة للتقوي وللمتقين; فالنبي صلي الله عليه وسلم يعلم بسيرته المجاهد في سبيل الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل, ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم, ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم, فيشتد بأسهم, فقد يكون للباطل جولة, ولأشياعه صولة, أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون. واكدت ايضا علي أن ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة وظهر ذلك في جواب النبي صلي الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه لما كانا في الغار لما قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله, لو أن أحدهم نظر إلي موقع قدمه لأبصرنا فأجابه النبي صلي الله عليه وسلم مطمئنا له: ما ظنك باثنين الله ثالثهما فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات, والثقة بالله, والاتكال عليه عند الشدائد, واليقين بأن الله لن يتخلي عنه في تلك الساعات الحرجة. وكان من أهم فوائد الهجرة انتشار الإسلام وقوته: فلقد كان الإسلام بمكة مغمورا لا يجد نصيرا, وكان أهل الحق في بلاء شديد; فجاءت الهجرة ورفعت صوت الحق علي صخب الباطل, وخلصت أهل الحق من ذلك الجور وأورثتهم حياة عزيزة ومقاما كريما وأكدت أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه فلما ترك المهاجرون ديارهم, وأهليهم, وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم, عوضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا. وكانت سلامة التربية النبوية للصحابة بمثابة تأهيل للاستخلاف, وتحكيم شرع الله ونشر دين الله في مشارق الارض ومغاربها ويقول الشيخ محمد الأزهري من علماء وزارة الاوقاف أن الهجرة إلي الله تعالي ورسوله تكون بهجر ما نهي الله عنه كما قال النبي صلي الله عليه وسلم, والهجرة إلي الله تعالي وإلي رسوله صلي الله عليه وسلم بفعل المأمور وترك المنهي فرض عين علي كل أحد في كل وقت, فلا انفكاك لأحد عنها إذ هي مطلوب الله ومراده من العباد, وقد اوضح ابن الجوزية رحمه الله رسالة لطيفة في الهجرة إلي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم وهي معروفة بالرسالة التبوكية أو زاد المهاجر إلي ربه, ومما قاله رحمه الله في بيان حقيقة الهجرة إلي الله وماهيتها: وهي هجرة تتضمن( من) و(إلي) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلي محبته, ومن عبودية غيره إلي عبوديته, ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلي خوف الله ورجائه والتوكل عليه, ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلي دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له, وهذا بعينه معني الفرار إليه قال تعالي:{ ففروا إلي الله}, والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه. وهذه الهجرة لا بد للعبد منها لأن عدوه له بالمرصاد فلا ينجيه من كيده ومكره إلا لجوءه إلي ربه واستعانته به وهجرته إليه. قال ابن القيم: وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلي خلاف ما يحبه ويرضاه, وقد بلي بهؤلاء الثلاث, فلا يزالون يدعونه إلي غير مرضاة ربه, وداعي الإيمان يدعوه إلي مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلي الله ولا ينفك في هجرته إلي الممات.. فمن أراد أن يكون مهاجرا إلي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم فليفعل المأمورات من الفرائض وليجتهد في فعل النوافل, وليترك المحرمات والمكروهات, وليجتهد في إصلاح قلبه وعمارته بمحبة الله تعالي والخوف منه والشوق إليه ورجائه وحسن الظن به, وليحكم شرع الله تعالي في كبير أموره وصغيرها ودقيقها وجليلها كما قال تعالي: فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.