ساعات ويبدأ العام الهجري الجديد الذي يستقبله المسلمون وأحوالهم يندي لها الجبين فالتشرذم والحروب تضرب أوصال الأمة.. والانتماء للوطن وحب الغير قيم لم تعد موجودة في العصر الحديث.. ورغم ما تحتويه رحلة رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم وهجرته من مكة إلي المدينة من دروس وعظات وعبر إلا أن المسلمين في العصر الحديث لم يستفيدوا منها وينظروا للمناسبة علي أنها وقتية فقط ومادة منبرية لإلهاب مشاعر الناس متناسين أنهم لو طبقوا دروسها في حياتهم لحصدوا سعادة الدنيا والآخرة. الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر يقول: كانت الهجرة من مكة إلي المدينة بأمر إلهي بعد أن ازداد اعتداء أهل مكة علي رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن آمن بدعوته ولأجل هذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم حينما خرج من مكة واستدار إليها وهو علي مشارفها: "والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".. وقد كانت الهجرة النبوية تحولا كبيرا في أمر الدعوة إلي الله سبحانه وتعالي فقد تحولت الدعوة من مكان تحارب فيه في جميع الطرق والوسائل إلي دار هجرة مستقبلة للدعوة والداعية والمسلمين المهاجرين المحبين لمن هاجر إليهم... وقد كانت هذه الهجرة بترتيب مسبق بين النبي صلي الله عليه وسلم وزعماء الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولي والثانية فلم تكن هجرة ارتجالية أو عشوائية غير محسوبة المخاطر وإنما كان هناك ترتيب دقيق أخذت فيه المواثيق والمعاهدات علي أهل المدينة ومن يمثلونهم في هاتين البيعتين ولم يكن المسلمون في مكة في خير حال وإنما كانوا مضطهدين حتي من أقرب الناس إليهم.. ولذلك كانت هذه الهجرة نقلة كبيرة للمسلمين من دار الاضطهاد إلي دار الأمن والاستقرار والدعة. معالم هادية د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر يري أنه بتنزيل وقائع الهجرة النبوية الكبري علي عالمنا المعاصر نجد فيها أولا معالم هادية تعد بلسما شافيا ودواء ناجعا لما تعانيه الإنسانية وتكابده البشرية فمن ذلك أن النبي محمدا صلي الله عليه وسلم لم يبادل بني وطنه المتآمرين بالعدوان بل ركن إلي اتخاذ الأسباب السلمية لإنجاح دعوة الله عز وجل وعدم إلحاق الأذي بقومه. ثانيا حب الرسول الكريم لوطنه رغم ما قاساه فقد ودعه في غبش الفجر.. خاطب الهضاب والجبال والسهول والوديان إنك أحب البلاد إليّ ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت".. والقيمة الثالثة أن الهجرة تخالف رحلتي الإسراء والمعراج .. فالهجرة يتجلي فيها بذل الجهود لنيل المقصود حيث سار صلي الله عليه وسلم في الصحراء باتخاذ الأسباب قرابة أسبوعين من الأيام بخلاف الإسراء والمعراج فركب البراق مع موكب التشريف الملائكي من جبريل وميكائيل عليهما السلام.. أما الهجرة فكان الصاحب وزير رسول الله صلي الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ووسيلة المواصلات الناقة. أضاف أن القيمة الرابعة أن النبي صلي الله عليه وسلم بدأ في قباء بمسجد صغير ثم ارتحل إلي المدينة راكبا ناقته القصواء لم يركب خيلا مطهما ولا فرسا مدثرا أو مسرجا بل دخل علي ناقته والتي ألهمت من الله منزَل رسول الله صلي الله عليه وسلم "دعوها فإنها مأمورة". خامسا صلة رسول الله برحمه فقد قال الله تعالي له أن ينزل عند أخواله بني النجار لأن السيدة سلمي زوج سيدنا عبد المطلب كانت من بني النجار فنزل عند سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.. فقد كان الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما ينتظران رجوع قصعة طعام العشاء من عند رسول الله صلي الله عليه وسلم فينظران إلي آثار أصابعه الشريفة فيأكلان مكان ذلك تبركا. سادسا تنظيم الرسول للمجتمع حيث أسس المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وأعلن مؤاخاته للإمام علي رضي الله عنه وأقام المسجد ووادع اليهود المسالمين ونظم الحياة كذلك مع غير المسلمين بدستور المدينة الذي يقع في 54 مادة رواها ابن هشام في السيرة وأرسي حقوق الإنسان كإنسان دون النظر إلي المعتقد أو اللسان أو اللون.. إلخ. هذه المعالم من الفقه العملي للهجرة النبوية لو أنزلناها علي الواقع المعاش لأوجدنا الحلول فيما نعانيه الصبر في الدعوة والمثابرة في الإبلاغ والإخاء في الإسلام والتعايش السلمي مع أهل الكتاب والتبرك برسول الله صلي الله عليه وسلم والسير علي هذه في صبر ومثابرة علي مدار 10 سنوات بالمدينةالمنورة بين جهاد بالقرآن قال تعالي "وجاهدهم به جهادا كبيرا" وجهاد بالسنان دفاعا عن الأرض والعرض. الأخذ بالأسباب الدكتورة آمال محمد عبدالغني أستاذ الفقه المقارن بجامعة المنيا وعضو معهد العلوم الشرعية العالمي عن بعد بالمملكة العربية السعودية تقول إن الله سبحانه وتعالي أوحي لرسوله صلي الله عليه وسلم بالنصر حين قال جل شأنه "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا". ويقول عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" فالهجرة النبوية من مكة بسبب الاضطهاد والأذي من زعماء الشرك في قريش للرسول والمسلمين إلي المدينةالمنورة بعد مرور ثلاثة عشر عاما من الدعوة والإذن من الله في الخروج من مكة والهجرة إلي المدينة ومنها نستفيد أمورا كثيرة منها حسن التوكل علي الله سبحانه واليقين في نصر الله ومعيته مع الأخذ بالأسباب لكل مسلم ومسلمة في جميع شئون حياته قال تعالي: "ومن يتوكل علي الله فهو حسبه".. إلي جانب التخطيط الاستراتيجي حيث تعد الهجرة نموذجا للتخطيط المتكامل لكل من يريد التقدم والنجاح في شتي المجالات علي المستوي الفردي والجماعي فالهجرة كانت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في بناء الأمة فنجد الخطة المتكاملة للهجرة حيث السرية والكتمان مع الترتيب والإعداد ووضوح الرؤية والأهداف فكل أمة تريد التقدم. وكل فرد يريد التميز عليه بالتخطيط والهجرة خير النماذج0 أضافت د. آمال أنه يستفاد من الهجرة أيضا الأخذ بالجودة الشاملة للعمل حيث الإتقان للهجرة قبل ألف وأربعمائة سنة من تطبيقها في عصرنا الحالي.. كذلك تضافر الجهود بين جميع أفراد الأمة كما نقول في عصرنا سائر فئات المجتمع فكيف تكاملت جهود المرأة المتمثلة في أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. ومولي أبوبكر رضي الله عنه عامر بن فهيرة. والصديق رضي الله عنه الصاحب الأمين علي رسول الله صلي الله عليه وسلم. والاستعانة بالخبراء حيث استأجر دليلا ماهرا عارفا بطرق الصحراء ليقودهما إلي المدينة وكان مشركا وهو عبدالله بن أريقط فنجد الاستعانة بأهل الخبرة والكفاءة والثقة والأمانة 0 أشارت إلي أنه مما يستفاد به من الهجرة أيضا أن التآخي والتأزر والتألف والتواد والتراحم والترفق بالغير والتحاب أساس بناء المجتمعات حيث أخي النبي بين المهاجرين والأنصار وجمعهم علي حب الله ورسوله صلي الله عليه وسلم فمدحهم رب العزة قائلا سبحانه "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".