انتهي الاستفتاء. نجح الشعب المصري في الاختبار بأكثر مما قدر اي احد في الداخل او الخارج. الشعب قال انه الاولي بالديمقراطية من بين الشعوب, وان الوصاية التي فرضت عليه من قبل الحكم والنخب والخارج. الذي لم يفهم ان مصر كانت بدأت تجربة ديمقراطية منذ نهاية القرن التاسع عشر-لم تكن الا تعبيرا عن رؤي لا تفهم مدي حقيقة تحضر هذا الشعب. الشعب اثبت ان نضجه يفوق كل الداعين والمدعين بالديموقراطية. سقطت حكاية الجرعات وسقط الخوف وظهر ان ما كنا نراه من البلطجة والاضطراب والاقتتال والفوضي امام لجان الانتخابات ناتج عن استخدام العنف ضد المصوتين من قبل من لا علاقة لهم بالتصويت او الديمقراطية وانما بالمال. البلطجة لم تكن ناتجة عن اختلاف المصوتين مع بعضهم البعض في وجهات النظر, بل ناتجة عن سلوك من كان يحاول فهم روح الشعب.. الديمقراطية. انتهي الاستفتاء, واصبحت مصر في حالة اختبار اعلي من ذاك الذي جري في ميدان التحرير. لقد سجل الفاعلون في ميدان التحرير اول انقسام بينهم, اذ اختلفوا بين مؤيد ومعارض للتعديلات الدستورية. وبذلك انفتح الطريق امام ذوبان من كانوا في ميدان التحرير في داخل المجتمع. كانوا وقت المظاهرات يحاولون جذب المجتمع لهم وهم كتلة وجماعه ذات موقف موحد. وفي الاستفتاء ذهب كل منهم يخاطب قطاعا من المجتمع لجذبه لوجهة نظره, في مواجهة رأي من كانوا معه في ميدان التحرير, فانفتح' الميدان' علي' المجتمع' وانفتح الصراع والخلاف السياسي داخل المجتمع امتدادا من الميدان. اصبحنا امام وضعية جديدة كليا. ليس القصد' ان الثوار تمايزوا', او صاروا ذائبين في داخل المجتمع, بل الاصل اننا اصبحنا امام' تنظيم' المباراة والخلاف والصراع السياسي في داخل المجتمع, بما في ذلك من كانوا في ميدان التحرير. التعديلات الدستورية, انصبت علي اليات' الخلاف والصراع والمباراة' بين النخب السياسية ذات الانتماءات الفكرية والرؤي السياسية المختلفة, التي يستهدف كل منهما جذب اعلي الاصوات الانتخابية لمصلحته او لفكره ورؤاه. وهي تركزت وتمحورت حول تنظيم الخلافات وطريقة حل تلك الخلافات بالاحتكام الي رأي الشعب, وشددت علي ضرورات الاشراف القضائي وحرية الاحزاب والاعلام, حتي تتحقق عملية الاحتكام الحر لرأي الشعب. لكن اين كان موضع الاختلاف وهل كان جديا وحقيقيا ؟.كان مظهر الخلاف حول ما اذا كان من الوجب اتخاذ اجراءات انتقالية اطول زمنا, يجري خلالها وضع دستور جديد, ام ان الافضل هو اقرار تلك التعديلات الدستورية التي اقرت-واجراء انتخابات تشريعية( لمجلسي الشعب والشوري) واخري للرئيس, ومن بعد يجري وضع الدستور الجديد. وفي فهم هذا الخلاف من خلال هذا المظهر, قيل اننا كنا بين فريقين احدهما يسعي الي تأكيد اليات الانتخاب وخوض فترة انتقالية امنة, وان يجري التغيير في ظل سلطة منتخبة, والاخر كان يريد ان يحافظ علي حالة وزخم التغيير رافضا ترسيخ اية اوضاع جديدة حتي الانتهاء من تغيير كلي وشامل للدستور, واغتنام هذا الوقت في تقوية وتدعيم جماهيرية التيارات الشبابية التي ساهمت في الثورة. غير ان الخلاف في حقيقته لم يكن كما بدا, اذ هو اعمق من تلك القصة المتعلقة بالزمن, سواء لان كلتا الحالتين ستشهد اعداد دستور او لان الزمن في كلتا الحالتين يكاد يكون هو نفسه, او لان وضع دستور جديد قد ينص علي انهاء وجود المجلسين المنتخبين بعد التعديلات وانتخاب رئيس جديد. سبب الخلاف فعليا هو ان ما جري في ميدان التحرير لم يطرح رؤية مشتركة للتغيير بل هو ركز علي اسقاط النظام دون ان يقول ما هو المضمون الاقتصادي والاجتماعي والوطني للنظام الجديد لم يجر الاستقرار حول فلسفة الحرية والديمقراطية او طبيعة الاقتصاد وماهية الثوابت في السياسة الخارجية. التقت الحركات التي ساهمت في التغيير في ميدان التحرير حول هدف الاسقاط وحول اليات الديمقراطية لكنها لم تطرح ولم تتفق حول النظام القادم, لا علي صعيد الاقتصاد ولا الحرية ولا حول الثوابت الجديدة للسياسة الخارجية, وتلك هي الاسس الحقيقية التي يتحدد علي اساسها النظام القديم والجديد بطبيعة الحال. وهنا اذ جري اقرار التعديلات الدستورية, والحديث عن اعلان دستوري وانتخابات رئاسية وبرلمانية وتشكيل جمعية تأسيسية لصياغة الدستور الجديد, فقد ظل الامر علي ما كان عليه من قبل خلال اعمال الضغط والتغيير في ميدان التحرير وكل ميادين الثورة في مختلف المحافظات. جري الاتفاق حول' الاطاحة او الاسقاط', لكن الحوار لم يجر حقيقيا وموسعا حول مضمون النظام الجديد. لقد صدرت شكاوي من قصر الفترة بين الاعلان عن التعديلات والاستفتاء عليها وقيل ان الحوار المجتمعي لم يحدث حولها,والان يجري التركيز مرة اخري حول الاجراءات العملية من انتخابات واجراءات وطريقة اختيار او انتخاب للجمعية التأسيسية.. الخ, دون الحوار الفكري والمفاهيمي والسياسي حول النظام الجديد. واذ جري حديث حول بدء اجراء حوارات بين نائب رئيس الوزراء وقطاعات الشعب وممثليه, فالبلاد تدخل في حالة الخطر, ليس فقط لان تلك الطريقة الانتقائية ستجري علي طريقة اننا سنسمع ونصيغ, ولكن ايضا لانها لا تحوي تفاعلا بين فئات المجتمع نفسه وبشكل مباشر, بما يجعل الخلاف قائما تحت الرماد دون تصد لحله بعد فهمه. والبديل الصحيح والضروري والعاجل, هو ان نأخذ بفكرة' المؤتمرات الوطنية الجامعه' للحوار العميق بين مختلف الرؤي والتيارات والخبراء, لإزالة الالتباسات وتحديد الثوابت التي لا يختلف حولها.. لتأتي صياغة الدستور علي بينة حقيقية. المؤتمر الاول, هو مؤتمر لتحديد النظام الاقتصادي الاجتماعي للبلاد, الذي سيجري النص عليه او ترجمته في الدستور. لقد كان الانظام الاقتصادي والاجتماعي في زمن حكم الرئيس عبد الناصر قائما علي فكرة سيادة قطاع الدولة او القطاع العام, وفق خطط تحشيدية لاقامة.. الخ, وترجمت تلك النظرة في رؤية اجتماعية قامت علي فكرة التشغيل كثيف ومجانية التعليم والعلاج وغيرها. ومع وصول الرئيس المصري انور السادات خاضت البلاد تجربة اخري, اذ جري فتح المجال للقطاع الخاص في معظم المجالات وانتهينا في الامتداد لحكم السادات ?مبارك الي ما وصلنا اليه من بيع كل الاصول في البلاد. ما شكا الناس منه لم يكن فقط الفساد فتلك رؤية مبسطة-بل كان نمط الاقتصاد والرؤية الاجتماعية( النيوليبرالية) التي جري تطبيقها. الان واذ يجري اقرار دستور جديد ففي اي اتجاه سنذهب ؟.الامر لا يحل بمجرد ترك الامر لهذا الخبير او ذاك او هذا المسئول وذاك. نحن نعيد تأسيس حالة مختلفة كليا في البلاد وتحديد نمط الاقتصاد وعلاقة التنمية بالعدالة الاجتماعية.. الخ, هي في صلب تغيير الدستور. والمؤتمر الثاني يتعلق بفهم الحريات ومفهوم الليبرالية والدولة المدنية- ومحددات هذا الفهم- وها نحن خلال مرحلة الاستفتاء عشنا وقائع خلاف حول بروز دور الاتجاهات الاسلامية ومسألة المادة الثانية في الدستور وقبلها عشنا مسألة شغلت الرأي العام القبطي حول الزواج المدني واحكام المحاكم بالطلاق, كما يتوقع ان تبرز قضايا اخري عديدة تتعلق بفكرة المواطنة واطلاقها او تقييدها ودور المرأة وما المسموح لها علي صعيد شغل المراكز الاساسية في الحكم وغيرها. امر مفهوم الحرية يتطلب هو الاخر, حوارا حقيقيا داخل المجتمع او هو يتطلب التقاء محددا لنخب متفكرة من مختلف الانتماءات للتوصل الي رؤية واضحه ليس فقط مشتركة بل وايضا تحددا الاختلاف والاتفاق ليكون ذلك اساسا يخول لمن سيختارون او ينتخبون في الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور, الذي لا يتعامل مع مخاوف بل مع مفاهيم كلية واضحه. والمؤتمر الثالث يتعلق بالخطوط العامة لثوابت السياسة الخارجية المصرية. لا يصح ان يترك الامر لمن يتحدث ويتحرك هنا او هناك, فذاك يتحدث عن الغاء كامب ديفيد واخر حول العلاقات الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة وثالث يري قضية المياة قضية مفتعلة واننا فقط اخطأنا في بعض الاجراءات واطلقنا تهديدات في غير محلها, وهناك من يتحدث عن رؤية عربية بهذا الاتجاه واخرون يقولون بغير ذلك. مصالح الدولة العليا يجب ان تتحدد وفق رؤي متخصصة لمفكرين ومخططين استراتيجيين فضلا عن دور مباشر في تحديد للرؤية من قبل القيادة العسكرية للبلاد. تلك قضايا وثوابت لا تقبل المهاترات وهي ليست قضايا سياسية بل هي ثوابت تاريخية واساسية في بناء العقل المصري وثوابت في بناء الدولة, وهي روح الدستور لا مواده فقط. تلك المؤتمرات الثلاثة باتت ضرورة ملحه, وان لم نتوجه الي هذا النمط من الحوار الوطني فان الخلافات ستظل مسكوتا علي اسسها لنكرر ذات الخطأ الشائع في مختلف البلاد العربية, التي يتحدد فيها' اتجاهات بناء الدولة وثوابتها بطريقة عشوائية تسمح للساسة المتغيرين بافعال تضر بمستقبل البلاد والاجيال, وفي بعض الاحيان تتحول مصالح البلاد الي مصلحة البقاء علي الكرسي. مخاطر عدم التوافق علي ثوابت حددها التاريخ والهوية والاكتفاء بحوارات شكلية يحمل مخاطر جدية كثيرة, منها ان يجري الحوار بين النخب في تلك المرحلة التاريخية حول ما هو سياسي او حتي حول ما هو اجرائي دون الدخول في حوار حقيقي وهذا ما شاهدناه في الحوار والاختلاف حول التعديلات الدستورية. ومنها استمرار التنازع ما بعد اقرار اية انتخابات او تعديلات دستورية او حتي تغيير الدستور, اذ الدستور ليس فقط ابا القوانين بل هو يتحدد وفق رؤية للدولة وبنائها والأسس التي تتحرك علي اسسها المؤسسات كافة لفترة زمنية طويلة.ومنها ان هناك من سينفرد باقرار رؤاه هو وفرضها او تمريرها علي المجتمع في غياب منه او في غياب الوعي بما يجري اقراره ليحكم' المصالح الثابتة للبلاد'. ان الاساس فيما يجري الان هو اننا نعيش حالة هي الاولي من نوعها في التاريخ الحديث لمصر اذ نحن نعيد تأسيس الحالة المصرية من خلال الحوار الشعبي ودور النخب لا من خلال الفرض من اعلي. لقد جري تحديد كل تلك الرؤي في زمن محمد علي من خلال حالة سلطوية دون مشاركة من الشعب. وفيما تلاها في زمن خلفائه جري تغيير كل تلك الاتجاهات( الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية), من خلال حالة سلطوية وحالة تضاغط بين السلطة والشعب ومن بعد كان الاحتلال له دور ضاغط هو الاخر, فانقلبت الاتجاهات وتبدلت دون حوار ومشاركة حقيقية.وفي زمن ما بعد ثورة يوليو جري اقرار البناء الجديد من خلال حالة السلطة الجديدة التي اتت بعد الانقلاب وفي ذلك دخلت في حالة صراع مع كل النخب الفكرية والسياسية في المجتمع لتقرر وتنفذ ما قررته من تغييرات اقتصادية واجتماعية وعلي صعيد العلاقات الخارجية والثوابت للمصالح المصرية. وجري التغيير الذي حدث مع وصول الرئيس السادات ومن بعده مبارك من خلال حالة لم تشارك فيها النخب والشعب. الان نحن امام اول حالة تغيير يحدد فيها الشعب ونخب المجتمع, ما يجب ان تتأسس عليه الحالة المصرية وفق نمط جديد. تعديلات الدستور او تغييره والاتفاق علي الاليات الديمقراطية واجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية تتطلب حوارا وتوافقا بل وصراعا فكريا حول اسس بناء الحالة المصرية الجديدة علي اسس واضحه للجميع وجديدة ايضا, يجري اقرارها قبل صاغتها في قواعد دستورية.