قام الشعب التونسي باحتجاجات شعبية واسعة غطت أرجاء تونس, رافقها موجة من القمع الأمني( الشرطي), وأودت بحياة مواطنين تونسيين, وبعد استمرار الاحتجاجات والقمع لقرابة شهر, حققت الاحتجاجات الشعبية التونسية ما رنت إليه, وأسقطت الرئيس زين العابدين بن علي, الذي فر هاربا إلي المملكة العربية السعودية. وبعد اتمام هذا النموذج يمكن القول بحدوث تحول في الشخصية العربية والفكر السياسي العربي, الذي عادة ما وصف الشخصية العربية بأنها آلية لاعادة انتاج مظاهر التخلف الاجتماعي, ومنها الاستبداد, وانها شخصية مأذونة, لما يقبله الانسان العربي من قهر, ورضوخ, وسلبية, ولا مبالاة, وانتظار الآخرين حتي يصنعوا له شيئا قد يحقق بعض آماله. والنموذج التونسي قد أحدث عدة تغييرات في الفكر السياسي والممارسة السياسية العربية, بدءا من طريقة تولي السلطة, وانتقالها, وروح الشعب ودوره في تغيير السلطة السياسية الحاكمة, والمؤسسات التي يمكن الثقة بها وقت الأزمة, والتحول, فقد كان الوصول إلي السلطة في الدول العربية إما عن طريق الشرعية الثورية( انقلاب عسكري يحوز علي السلطة السياسية) أو عن طريق الوراثة, كما هو الحال في الملكيات والامارات العربية, أو عن طريق الانتخاب وإعادة الانتخاب الذي يشوبه الكثير من المسالب. أما بعد نجاح النموذج التونسي فقد أضحي للمواطن العربي دور وكلمة في كيفية الوصول إلي السلطة, والاحتفاظ بها, فمن يأتي لحكم تونس بعد بن علي يكون بالإرادة الشعبية للمواطنين التونسيين, إن لم تسلب إرادتهم مرة أخري, بمعني آخر, ما حدث في تونس أضاف طريقة جديدة للوصول إلي السلطة لم تعهدها الدول العربية, والتي تمثلت في الانتفاضة الشعبية الحرة, وبذلك يمكن القول بأنها قد غيرت أو انهت عصر الانقلابات العسكرية, بالنسبة للحاكم. وفيما يتعلق الأمر بالمحكومين, فقد ردت الأحداث التونسية علي كل الأدبيات التي تحدثت عن الشخصية العربية, ووصمتها بالسلبية, والرضوخ, واللامبالاة, وانعدام الفعل الجماعي. كما صكت الأحداث التونسية مفهوم سلام المحبة بدلا من سلام المقابر الذي وصف به جون لوك العلاقة بين السلطة والمجتمع فالسلطة باطشة لاتقبل الاختلاف, وتستشري العنف, ولكن مع أحداث تونس فقد ظهرت بوادر سلام جديد( سلام المحبة) فقد نقلت وسائل الإعلام عقب نزول الجيش التونسي إلي الشارع وخروجه من ثكناته, مدي الاحترام والتقدير بين الجيش التونسي والمواطنين التونسيين, نتيجة رفض الجيش اطاعة الحاكم وبطش المواطنين. كما اكدت الأحداث التونسية علي رفض الفصل بين الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وأن التركيز علي الإصلاح الاقتصادي قد لايصمد كثيرا أمام طموحات وأهداف المواطنين العرب, مهما حقق من معدلات نمو لايشعر بها المواطن العربي العادي, وانما السبيل الوحيد هو تبني منهج الإصلاح الشامل بكل ابعاده السياسية, والاجتماعية, والاقتصادية, دون التركيز علي بعد والتخلي عن الآخر, والشعوب قد تصبر ولكنها لاتصبر إلي الأبد. وأخيرا, فقد أوضحت الأحداث التونسية بجلاء ضرورة احترام أدمية وانسانية المواطن العربي, والسعي لإرضائه, وتحقيق طموحاته, من توفير فرص عمل مناسبة, وعيش كريم, والسماح الفعلي بحرية الرأي والتعبير والتنظيم, فتحية اعزاز وتقدير لشعب تونس العريق, ومبارك لكم نصركم ونحو الأمام. أما بالنسبة للأحداث في مصر, فقد إندلعت بعد أقل من شهر من نجاح الثورة التونسية, وقاد شباب مصر مظاهرات عاصفة, أطلقت يوم الخامس والعشرين من يناير الماضي, استمرت حتي يوم الحادي عشر من فبراير2011, قام بهذه المظاهرات شباب مصري لم ينتم لأي حزب سياسي, بل الغالبية العظمي منهم كانت من الشباب المنتمين لحركات احتجاجية, كحركة السادس من أبريل, وحركة كفاية, وحركة خالد سعيد, وبعض شباب الإخوان وبعض شباب حزب الجبهة الديمقراطي, طالبوا بعدالة اجتماعية ومساواة وتكافؤ في فرص العمل, وتوفيرها, والعيش حياة كريمة, واصلاحات سياسية ودستورية وقانونية. وقد اعترفت كل القوي السياسية التي ظهرت علي المشهد السياسي بعد بدء المظاهرات مثل حزب الوفد, وحزب الجبهة الديمقراطي, وجماعة الإخوان, بعدم قدرتها علي الحديث أنها قد قادت هذه المظاهرات, مع العلم بأن بعضها قد أيدها منذ البداية, كحزب الوفد, وبعض المنتسبين إلي الأحزاب قد شارك في انطلاقها كشباب حزب الجبهة. حصد المصريين نتائج هذه المظاهرات, والتي تمثلت في: تشكيل وزارة جديدة بدون رجال أعمال, وتعيين نائب لرئيس الجمهورية السيد عمر سليمان وتفويض رئيس الجمهورية لنائبه بالدعوة لحوار بينه وبين كل القوي السياسية في مصر حول القضايا المطروحة والدعوة لتعديل بعض مواد الدستور المصري خاصة المادتين76 و77 وامكانية تعديل المادة88 والمطالبة بمكافحة الفساد, والمفسدين, واعلان الرئيس عدم ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة وافصاح السيد عمر سليمان, عن عدم قيام احد من أسرة الرئيس مبارك بترشيح نفسه, خاصة السيد جمال مبارك, والالتزام بتنفيذ ما يصدر عن محكمة النقض بخصوص بطلان عضوية أعضاء مجلس الشعب المنتخب في2010. وبعد رفض الشعب لجميع الاستجابات التي أعلنت سلفا, أعلن السيد عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية مساء الجمعة الحادي عشر من فبراير, تخلي الرئيس مبارك عن رئاسة الجمهورية, وكلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد. إلي الآن لم تكتمل الثورة المصرية بعد, رغم اعتراف كافة أطياف القوي السياسية المصرية من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار, بأن مصر قبل الخامس والعشرين من يناير2011, غير مصر بعد الخامس والعشرين من يناير, فالمظاهرات في مصر مازالت منطلقة, ولم تهدأ بل تزداد كل يوم تعقيدا, فالمطالب في بداية الثورة غير المطالب في الأيام الأخيرة, فمع تزايد ونجاح نداء المتظاهرين بمليونيات حتي علي الأقل خلال أيام معينة, تتعدي المظاهرة في هذه الأيام المليون, ويصرون علي مطلب أول وأساسي هو تنحي الرئيس مبارك عن الحكم, ومازالوا مصرين علي مطلبهم الأساسي كما يقولون, ويرفضون الخروج أو ترك ميدان التحرير, الذي اتخذوه عنوانا جديدا لهم, يرفعوا فيه العديد من الشعارات, مثل هو يمشي, مش هنمشي, والشعب يريد إسقاط النظام, إرحل مبارك, كل هذه الشعارات وغيرها يركز علي مطلبهم الأول والأساسي, ضرورة تنحي الرئيس مبارك عن الحكم. إلا أن هذا المطلب دعم بمطلب آخر بعد الهجوم الذي شنته قوي محسوبة علي النظام الحاكم, بالخيول, والأسلحة البيضاء, منذ يوم الأربعاء الموافق الثاني من فبراير, وراح ضحية الصدام بين المؤيدين والمظاهرات الرافضة للرئيس مبارك, نحو احد عشر ضحية, خلاف قرابة أكثر من سبعمائة من المصابين, خلفت هذه الأحداث مطالبتهم بمحاكمة المسئولين عن هذه المعارك, وعلي رأسهم الرئيس مبارك, إلا أن هذا المطلب لم يعول عليه الكثير من المراقبين, لأنهم يرون أن تنحي الرئيس مبارك عن الحكم فيصل بالنسبة لمصر والمصريين. ومن الملاحظ أن التركيبة السياسية في ميدان التحرير شديدة التغير, فقد خطط لها ونفذها الحركات الاحتجاجية, كما سلف وأشرنا, ولكن إنضم لهم بعد ذلك مجموعة من شباب بعض الأحزاب, وجماعة الأخوان, خاصة الأخيرة التي عانت من قهر, وتعسف طوال السنوات الأخيرة, سواء عبر الاعتقالات أو عبر المحاكمات العسكرية لقيادتها ولأعضائها. فمن يذهب لميدان التحرير يجد هيمنة جماعة الإخوان علي لجان الأمن والنظام في الميدان. ومن ثم فأعتقد أن بروز جماعة الأخوان في ميدان التحرير دون إعلان أو شعار يجمعهم أو اعتراف قياداتهم بتواجدهم, قد حث قوي أخري مهمشة للبروز والمطالبة برفع المظالم التي قد وقعت عليهم, فنجد مثلا لافتة لمعلمي مصر تأييدا لثورة25 يناير, ولأفتة أخري لصيادلة مصر, بخلاف اللافتات الإقليمية, كلافتة أبناء أسوان, والفيوم المؤيدة لثورة الشباب, ولافتة لشباب الثورة بكفر الزيات يؤيدون ثورة25 يناير فيها, ولافتة يحملها من يرتدون ثيابا أزهريا أو تابعين لوزارة الأوقاف المصرية, مطالبين فيها برحيل الرئيس مبارك. وأخيرا, فقد أبدي بعض المصريين انزعاجهم من وجود أجانب وأجنبيات بين المتظاهرين, وشعروا انهم يحاولون أن يسرقوا ثورتهم, وينسبوها إليهم, وأعتقد أن تصريح السيد عمر سليمان مؤخرا( في الثامن من فبراير لرؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والمستقلة) وحديثه عن توقع ثورة الشباب منذ سنة, قد يغلق بعض اللغط حول تواجد الأجانب بين المتظاهرين, وقد يصرفنا عن إنجاز الشباب المصري الحقيقي, وغير هذا وذاك فليس غريبا علي مصر التي يقطنها آلاف الأجانب حاملين جنسيات مختلفة, ويتخذونها مقرا لهم, أن يشاركوا المصريين فرحتهم, لما شعروا أنهم يفتقدونه في مصر, بخلاف الوضع الطبيعي للمظاهرات في بلدانهم المختلفة. صفوة القول, فقد أثبت الشباب في مصر وتونس للجميع أنهم ان استغلوا فسيكونون وقودا لدول قوية, رسموا صورتها في خيالهم, وعلي فضاء الفيس بوك, ومن إحراق جسد بو عزيزي, وسعوا لتحقيق هذه الصورة علي أرض الواقع, إنها دول المستقبل التي سوف تحتضن أبناءها بين ذراعيها, وتصغي إليهم جيدا في هذا المستقبل الواعد بهم. لقد ركزت علي التحول في الشخصية العربية بالتركيز علي النموذج المغربي, لعدم اكتمال الثورة المصرية بعد.