رغم أن الاجتهادات المستنيرة فى الدين كانت ومازالت من المسائل الجديرة بالاهتمام، إلا أن مجرد النطق بمصطلح قضايا التجديد يصيب الناس بتوجس وخيفة ناتجين عن وازع دينى متأصل داخل عقل وفكرالمسلم الذى يقف حائرا مابين مفرط فى أمور دينه مستهين به ومتشدد يضيق على الناس سبل حياتهم ودينهم. مما جعل الحاجة ملحة إلى تجديد الخطاب الإسلامى، وللحديث فى هذا الشأن ليس هناك أجدر من التحاور مع عقل فقهى متفتح يبحر فى عالم التطوير انطلاقا وإبداعا. الدكتورعبدالحليم منصور وكيل كلية الشريعة والقانون بالدقهلية وأستاذ الفقه المقارن بجامعة الازهر يجيب عن تساؤلات مهمة حول المرتكزات التى يقوم عليها مفهوم التجديد،وتأصيل مرجعيته،وكيفية التعامل مع المستجدات، والتصدى للإ فتاء، وتطبيق حد الحرابة. { الفقهاء ندبهم الله للقيام بمهمة الكشف عن حكمه تعالى فى الوقائع المستجدة { تجديد الخطاب الدينى ليس دعوة للاستبدال بالشرع { أطالب بتشريع يجرم التعرض للفتيا إلا من المتخصصين { تعيين الأئمة والخطباء كان يخضع لمعايير تشوبها كثير من الشوائب - من المسائل التى طال الحديث فيها «تجديد الخطاب والفقه الإسلامى «.نحتاج منكم إلى تأصيل مرجعيتها؟ -فى ظل الأجواء المفعمة بالغلو فى الدين،والتشدد،ومحاولة حمل الناس على المغالاة فى كل شيء،والخروج بهم من روح الشريعة الغراء التى تسع الجميع، إلى نفق التشدد المظلم،الذى يضيق على الناس سبل حياتهم ودينهم، والذى يضيق ذرعا بالآخر،وينفر منه، وينتهى الأمر به إلى حد تكفيره، وإخراجه عن الملة،بل ستباحة دمه، فى ظل هذه الغيوم المتراكمة بعضها فوق بعض، كانت الحاجة والمطالبة بتجديد هذا الخطاب الدينى، الذى شوه صورة المسلمين، فضلا عن تشويه الإسلام. - هل يعنى تجديد الخطاب الدينى التحلل من ثوابت الدين،أوتغيير بعض مفاهيمه؟ بالقطع لا، فكما قال رئيس الجمهورية المشكلة ليست فى الدين، ولكن فى الفكر المغلوط الذى تحمله الجماعات المتطرفة الخارجة عن حد الوسطية والاعتدال وتروج له فى العالمين على أنه رسالة الوحى التى جاء بها جبريل الأمين على قلب سيد المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام. - وما هى المرتكزات التى يجب أن يقوم عليها مفهوم التجديد من وجهة نظركم؟! أرى أن هذا التجديد يحتاج إلى عودة الخطاب الدينى لما كان عليه الأمر فى عصرالنبوة، وعصر نزول الوحى،بحيث يتسم بالمرونة،والسعة التى تسع الناس جميعا،دون تضييق على الناس، أو حملهم على الأشد من أقوال العلماء، كما كان يفعل النبى عليه الصلاة والسلام فى خطابه للناس جميعا حيث يقول : بعثت بالحنيفية السمحة «وقوله :» إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه «وقوله للناس فى الحج :» افعل ولا حرج «وما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما «وفى هذه الأيام يختار البعض للأمة أعسر الأشياء، وأشقها، ويحاولون فرضها على الأمة على أن هذا هو الدين الذى جاء به الوحى، وليس على أنه مجرد رؤى واجتهادات توصلوا إليها، تحتمل الخطأ والصواب،..وكذلك عودة الخطاب الدينى الواسع الرحب،بتعدديته الفكرية والثقافية،الذى يعمل على قبول الآخر وإن اختلف معه فى الرأى،لاسيما فى الأمور البعيدة على ثوابت الدين،بحيث لا يجمد على شيء واحد،كما يريد البعض من حمل الناس على ما يريدون وحدهم دون سواهم،مع إلغاء كل الآراء والأفكار الأخرى،التى يمكن أن يكون بعضها أو جلها على صواب،.. ومخاطبة الناس باللغة التى يفهمونها، والتى تصل بسهولة إلى عقولهم وقلوبهم، فكما ورد فى الحديث :» أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم، وفى صحيح البخارى عن على موقوفا :»حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله «ونحوه ما فى مقدمة صحيح مسلم عن ابن مسعود قال :» ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة «ومعنى ذلك أن العالم أو الداعى والمتحدث باسم الدين لابد أن يراعى حال الناس،ومقتضى حالهم واللغة التى تناسبهم. - هل إذا تحققت هذه الامور يكون الخطاب الدينى قد ناله التطوير المنشود؟! - نعم. خاصة إذا أضفنا إلى ذلك ضرورة عرض الإسلام على أنه مجموعة من التكاليف والأحكام الشرعية التى من شأنها الارتقاء بسلوك البشر نحو الأفضل،وأنها موضوعة للابتلاء والاختبار من الله سبحانه وتعالى، وليست لتعذيب البشر،أو إيقاعهم فى الحرج والمشقة، وألا يبحث فى النيات ولا القلوب،ولا يكفر الناس بغير بينة ولا دليل،فأمر القلوب موكول إلى رب القلوب،وإنما المطلوب منا أن نقبل الظاهر،والله يتولى أمر السرائر ويحاسب عليها دون غيره من بنى البشر. - ماهى الأمور التى يمكن أن يكون التجديد فيها مفتوحا للعقل الفقهى الإسلامى للانطلاق والإبداع؟ تجديد الخطاب الدينى لا يعنى إلغاء ثوابت الدين،فالأحكام الشرعية قسمان:قسم لا يمكن تغييره، ولا تبديله، وهو ما يعرف بالثوابت، مثلما شرعه الله من الأحكام المتعلقة بأركان الإسلام كاصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وتحريم الربا، والزنا، والقتل، والسرقة، وغير ذلك مما اتفقت عليه الشرائع السماوية، وهناك قسم ثان متغير،يبنى على حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحادثة، وهذا النوع من الأحكام المرجع فيه إلى الفقهاء فى كل عصر ومصر، يجتهدون فى اختيار ما يناسب حال الناس وظروفهم، وبيئتهم، مثلما فعل الإمام الشافعى عندما غير مذهبه القديم بالعراق، إلى الجديد بمصر، لتغير أعراف الناس وعوائدهم، ولهذا يقول الشاعر: والعرف فى الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار. هذا النوع من الأحكام هو ما يمكن أن يناله التجديد بما يلائم حال الناس، ويخرجهم من الضيق إلى السعة، ومن الغلو والتشدد، إلى المرونة والسعة،بحيث يختار العلماء من الأقوال أيسرها،وأكثرها ملاءمة لحال الناس،وظروفهم. - الاجتهادات المستنيرة فى الدين من المسائل المهمة والجديرة بالاهتمام. غير أن الكثير من الناس يخشى بوازع ديني من مجرد النطق بمصطلح قضايا التجديد. ترى لماذا. وكيف يكون العلاج من هذه التخوفات؟! - يتخوف كثيرون من مصطلح التجديد وتحدث لهم صدمة، بل وربما شلل فى التفكير، ظنا منهم أن هذه دعوى لاستبدال الشرع بغيره، أواستحداث دين جديد، وإلغاء ما جاء على لسان الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذا الزعم باطل من أساسه،وفيما يبدو لى يرجع سبب هذا الانزعاج إلى عدم الفهم الحقيقى لشرع الله عز وجل، وعدم الفهم الحقيقى للمتغيرات الرهيبة التى تحدث فى عصر العلم، وتورة تكنولوجيا المعلومات، وعدم فهم البعض لفكرة التعددية الفكرية والثقافية التى يقرها الشرع الحنيف،لاسيما فيما يتعلق بفروع الدين. - هناك من ينادى بتطبيق «حد الحرابة» على القائمين بأعمال الإرهاب. فهل أنتم مؤيدون لهذا الرأى أم تختلفون معه؟! تحدث القرآن الكريم عن المحاربين لدين الله، ومحاربى الأوطان، ومحاربى الأمن والأمان، وعن المخربين الساعين فى الأرض فسادا، الذين يستحلون القتل،ويعشقون الدماء، ويرهبون المجتمع حتى يخضع لهم ذليلا، هؤلاء وأمثالهم تحدث عنهم القرآن الكريم فى قوله تعالى فى سورة المائدة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) ومن ثم أتفق مع كل من ينادى بتطبيق حد الحرابة على القتلة،وعاشقى الإرهاب، والتخريب،من أجل تحقيق الامن والأمان، فهما الأساس الأول لتحقيق مقاصد الشرع الحنيف،ولو طبق حد الحرابة على إرهابى واحد، لتحقق الردع العام،والخاص فى المجتمع،وأمن الجميع على دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم. - وهل للفقه القدرة على مسايرة التطور وملا حقة التقدم وحماية مصالح الفرد والجماعة؟ الفقه معناه الفهم،والفهم الذى أقصده هنا هو الفهم بمعناه العام،فهم الواقع،فهم مقاصد وجوهر النصوص، والذى يقوم على ذلك هم الفقهاء الذين ندبهم الله عز وجل للقيام بهذه المهمة العظيمة، مهمة الكشف عن حكم الله عز وجل فى الوقائع المستجدة قال تعالى فى سورة التوبة : فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122). هذه الفئة المدربة والمؤهلة والمتمرسة فى فقه النصوص ومقاصدها هى مؤهلة وقادرة على مسايرة واقع الناس، وملاحقة التقدم العلمى فى شتى الميادين، ومن يقرأ تراثنا الفقهى يجد الفقهاء القدامى تحدثوا عن صور افتراضية منذ مئات السنين، نرجع إليها اليوم فى تأصيل كثير من الأحكام المستجدة، مثلما يتعلق اليوم بقضايا تأجير الأرحام، وبنوك النطف والأجنة، وبنوك اللبن البشرى وغير ذلك. - هل الذين يتصدون للإفتاء اليوم هم الفقهاء؟! الإشكالية الكبرى أن أنصاف المتعلمين وأربابهم يناط بهم فى حالات كثيرة التعرض للفتوى،ويطلون من خلال الفضائيات ليتحدثونا ويفتونا بفتاوى شاذة تجعل الناس تسخر من الدين،وتنفر منه، لذا يجب على الدولة التدخل بسن تشريع يجرم التعرض للفتيا إلا من المتخصصين المؤهلين لذلك من أبناء الأزهر وغيرهم القادرين على بيان الحكم الشرعى للمكلفين. - ضعف ووهن الخطاب الدينى فى المسجد خاصة يتفرق دمه بين جامعة الأزهر ووزارة الأوقاف وأئمة المساجد. ماذا تقولون فى هذا؟ لا شك أن العقود الماضية تم فيها تهميش دور الأزهر،وتم تقوقع الأئمة وانحصار وانحسار حديثهم على بعض الأمور التقليدية التى لا تخدم روح الدين،وفى ظل هذا بدأت تظهر بعض النتوءات على السطح للجماعات من هنا ومن هناك، هذا وغيره من عدم فهم مقاصد الشرع والدين لدى كثيرين ممن يتعرضون له، أنتج أخطاء فى الفهم، ثم كوارث فى التطبيق العملى،من خلال المتشددين الذين يمارسون الغلو والتطرف على سائر المكلفين، كما أن قاعدة الاختيار فى تعيين وظيفة إمام وخطيب ومدرس فى وقت مضى كانت تخضع لمعايير تشوبها كثير من الشوائب، أما الآن فإنه لا يختار إلا أفضل العناصر من الحافظين لكتاب الله، والذين تجرى لهم امتحانات عديدة فى القرآن والتفسير والحديث والفقه وغير ذلك بحيث لا يشرف بحمل رسالة الأوقاف ورسالة الدعوة إلا من توافرت فيهم هذه الشروط الجديدة.