تحت سكون الليل, وأضواء الإعلانات الكبيرة التي تفترش شارع الجلاء, وأبواق السيارات المندفعة صرت وحدي بين أفكاري الكثيفة تدفعني رغبة الوصول للمنزل, وأملا في الراحة بعد عناء العدو اليومي وراء لقمة العيش توقفت علي حافة الرصيف تحت كوبري أكتوبر إستعدادا لعبور الطريق بإتجاه موقف الأتوبيس. وإذا بصرير سيارة مرسيدس يشرخ أذني وتمرق من جانبي بسرعة جنونية كادت تصدمني فقد استغل سائقها الطريق الخالي, واتخذ دورانا عكسيا يتنافي مع قواعد المرور ليصعد كوبري أكتوبر باتجاه رمسيس فتراجعت بحركة لا إرادية وانشقت الأرض عن أمين شرطة لم أرمقه رغم نظراتي المتفحصة للمكان واندفع بسرعة أجن من سائق السيارة وتصلب كالمستميت أمام عجلاتها. فتوقف عن السير واقترب من النافذة التي أسدل زجاجها الفامية ودارت محادثة بينهما, وأعطي علي إثرها السائق الرخصة للأمين فأخذها وصار مبتعدا عن السيارة بخطوات بطيئة وأخرج دفتر ليسجل به المخالفة ووقفت إثر عمود أسمنتي يحمل كوبري أكتوبر علي كتفيه متقمصا دور مصور صحفي يتقصي بعدسته حدثا جل وسرعان ما ترك السائق سيارته الفارهة يتلفع بدلة أنيقة كملامحه التي تبدو عليها رغد العيش وفي لحظة خاطفة تمت علاقة طردية تنازل بموجبها الأمين عن تشبثه بالرخصة, في نفس الوقت الذي تلقت به يده ما تكورت به يد السائق من أورراق, فدسها الأمين بجيب بنطالونه فإقتضبت ملامحي, وتملكني الضيق, وتحركت قدماي نحوهما, وعيناي ترمي بشرر فاتجه السائق إلي سيارته, وانطلق بسرعة كالبرق, ولمحني الأمين, فتلاشي النظر إلي بالنظر إلي دفتر المخالفات فهتفت بحدة: لم أعطيته الرخصة:. تعقد حاجبيه وأظهر الاستغراب وظهر الإرتباك علي وجهه ولم يجبني, وصار معطيا ظهره نحوي فتشجعت وأكملت بصوت عال: كم أعطاك؟ إلتفت ناحيتي بحركة لم أتوقعها وعاجلت يده وجهي فطبعته بعنف وانشقت الأرض عن بعض زملائه علي الناحية الأخري من الطريق فتبدلت لهجته الدفاعية لهجومية بحتة وقال بصوت أجش: بطاقتك؟. فتلكأت عن إخراجها, وتشتت العقل, وتملكني الخوف والفزع ومرقت سيارة مسرعة, فصرخت بكلاكس قوي وامتزج صوتها بصوت آخر مقزز يعني مترنما ومترنحا بطريقة شعبية: هل راي الحب سكاري ااااااااااا مثلنا كم بنينا من خيال حولناااااااااااا. ووجدتني لم أبارح موقعي إثر العمود الأسمنتي ملجم الفم, تتسلق الدهشة كامل وجهي. فقد اختفيا السائق والأمين وانشقت الأرض فابتلعتهما وأبدلتهما بشاب سكير يشدو ويتبول مكانها معطيا ظهره نحوي, ثم يدور في مكانه ببطء متملا السماء, وهو لا يزال يسقي الطريق دون مبالاة كالاطفال, حتي أمسينا وجها لوجه فتراءي لي عضوة المسدد نحوي وكادت نافورته أن تطولني فانطلقت مبتعدا تلاحقني ضحكاته العالية وانتشاؤه بالغناء وأكملت طريقي للمنزل وأنا أكابد مشاعر وأفكارا تتدهسني ما بين الرغبة فيما كنت أود قوله وما بين الخوف من تبعات القول ولمت نفسي علي الصمت فوجدت في مستقبلي خير عزاء وأدركت رسالة السكير فنظرت إلي السماء وذبت في تأويلاتها.