رحم الله أستاذنا الكبير حامد ربيع استاذ العلوم السلوكية الأشهر في زمنه, حين كان يحدثنا في نهاية السبعينيات عن طبيعة الرأي العام المتقلبة والتي تتأثر صعودا أو إنخفاضا بسرعة شديدة, حين يظهر متغير جديد لم يكن يضعه في الاعتبار أو لا تدركه عموم الناس علي نحو سليم. وكان يضرب الأمثال بالموقف الشعبي تجاه السياسيين والفنانين واللاعبين خاصة لاعبي كرة القدم, فإن أحسن أحدهم فهو في أعلي مراتب الرضاء الشعبي, وإن أخطأ أو تصرف علي نحو لم يتوقعه العموم حل الغضب والاستجهان محل التقدير والمحبة. في نهاية السبعينيات لم يكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي علي النحو الذي نعيشه الآن ونكتوي بأثاره, ولم يكن هناك سوي الإعلام بأشكاله التقليدية كالراديو والتليفزيون والجريدة الحكومية المطبوعة, وكلها كانت بشكل أو بآخر واقعة تحت أنواع من السيطرة الناعمة والتحكم غير المرئية للكافة, والتي تؤثر علي ما ينشر وما لا ينشر. وكانت هي الوسائل الوحيدة التي تؤثر في توجهات الرأي العام صعودا وهبوطا, وبما يتوافق مع التوجه العام للنظام السياسي. اختلفت الأمور كثيرا منذ ذلك الوقت, وظهر لاعبون جدد لا سيطرة لأحد عليهم, سواء كانوا من داخل الوطن أو من خارجه, يؤثرون بقوة في توجهات الرأي العام المحلي, بل في تشكيله من الأساس من خلال وضع قائمة الأولويات وإثارة النقاش وفق مسارات محددة تخدم أهدافا بعينها ليست بالضرورة الأهداف الكلية للشعب والمجتمع. ولذا أصبح الرأي العام شديد التقلب وشديد العصبية في آن واحد, بل وشديد التطرف في مواقفه تجاه القضايا التي تفرض عليه. وكلما كانت القضية تمس أحد الهموم المصيرية, وتدخل فيها لاعبون مختلفون, كان الرأي العام متقلبا أكثر وحائرا بشكل ينذر بانفجارات غير محسوبة, خاصة إذا كان هناك من يعد لهذه اللحظة ويستعد لها ولما بعدها. وفي هذه الأيام أتصور أننا نعيش حالة الحيرة العامة لأسباب مختلفة, ومن بينها مفاجآة الإعلان عن ترسيم الحدود البحرية مع المملكة السعودية والاعتراف العلني والذي يعلمه جيدا الباحثون والمتخصصون بأن جزيرتي تيران وصنافير تتبعان المملكة وليست مصر. وهي حيرة ربما تبدد جزء كبير منها بعد حديث الرئيس السيسي يوم الأربعاء الماضي, والذي شرح فيه الموقف بأبعاده القانونية والسياسية والتفاوضية, ومؤكدا علي أن قضايا تعليم الحدود ليست اجتهادات سياسية بل هي أمور تحسمها الوثائق الثابتة والخرائط المعترف بها والقانون الدولي, وكلاهما لهما أهل الخبرة والمعرفة والثقة, والذين يجب أن نعود إليهم وليس إلي غيرهم. والحق أن استمرار جزء من الرأي العام علي حيرته بعد هذا الحديث المفصل, يعني أن القرارات المفاجئة بشأن الهموم الوطنية وحماية الأرض غالبا ما تستفز الرأي العام وتدفعه إلي مواقف متطرفة أحيانا حتي بالرغم من ظهور الحقائق تباعا. ويزداد هذا التطرف في توجهات الرأي العام مادامت هناك آليات غير منظورة ويصعب وقفها, إن لم يكن مستحيلا, تغذي هذا التطرف في المواقف وتثير الشكوك وتستغل الأخطاء العابرة وتدفع به إلي أسقف أعلي وأكثر سخونة. وهنا يتبدي لدينا درس بليغ يتعلق بكيفية استقطاب الرأي العام بما يناسب المصلحة العليا للوطن. فالمهم ليس إظهار الحقائق التاريخية والوثائق الدامغة, بل الاقتناع الشعبي بصحة الموقف, وأنه لا يضر مصالح الوطن ويتماشي مع الدستور والقانون ولا يخالفهما. وبمعني أخر فإن الشفافية المتأخرة قد تأتي أحيانا بآثار عكسية وتحتاج إلي جهود أكبر لاصلاح ما نتج عنها, وهنا فالمطلوب هو السير في اتجاهين معا; أحدهما إزالة آثار التأخر في إظهار الحقائق الثابتة, والثانية إعادة بناء الاقناع الشعبي وتشكيل الرأي العام الايجابي المتوافق مع مصالح الوطن العليا.