في رحلة نمو الاقتصاد المصري. كان من الضروري الانتباه إلي السلبيات للقضاء عليها والتركيز علي الإيجابيات لتعظيم الاستفادة منها, ومؤخرا برز علي الساحة دور جهاز رقابي يحمل اسم جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وهو جهاز حديث نسبيا إلا أنه أصبح مؤثرا لارتباط اسمه بقضايا تم تحريكها تجاه كبري المؤسسات الاقتصادية في مصر دون خوف أو تردد من تقديم المخالفين للنيابة العامة ومحاسبتهم, ولكن لا يخلو الأمر من بعض الخطأ لدي العامة بل وبعض المتخصصين أيضا في فهم دور الجهاز ومسئوليته, الأمر الذي دفعنا للحوار مع الدكتورة مني طعيمة الجرف رئيس جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية, لنتعرف منها علي طبيعة عمل الجهاز وحدود اختصاصه ودوره المنوط به أداؤه في الاقتصاد المصري من أجل توعية المواطن ورجال الأعمال, وكذلك نتعرف علي العقبات التي تواجه الجهاز الرقابي الحديث.. في البداية سألتها: ما الذي دعا لتأسيس الجهاز من البداية وطبيعة دوره مقارنة بالأجهزة الرقابية الأخري؟ الجهاز اسمه غريب بعض الشيء خاصة جملة منع الممارسات الاحتكارية, مما يؤدي لبعض اللبس لدي العامة وبعض المتخصصين أيضا, حيث يعتقد البعض أن احتكار شخص أو شركة لإنتاج سلعة ما يعد جريمة وهذا غير صحيح, في حين أن القانون المصري لا يجرم الاحتكار ولا أي قانون بأي دولة في العالم, ولكن المجرم هو فرض المحتكر لممارسات احتكارية تمنع غيره من دخوله مجال المنافسة في إنتاج السلعة, وأنشئ الجهاز لعدة أسباب, فمصر ظلت خلال الخمسينيات والستينيات تعتمد علي التخطيط المركزي وسيطرت الدولة علي وسائل الإنتاج, وفي السبعينيات بدأنا نتحرك نحو السوق الحرة والتحول من الاقتصاد الاشتراكي إلي الرأسمالي والانفتاح, صحيح كانت الخطي متخبطة في بعض المراحل, لكن دول العالم التي سبقتنا في هذا الطريق عملت علي وضع ضوابط تتولي تطبيقها أجهزة رقابية مسئولة عن مراقبة وضبط الأسواق أثناء مرحلة التحول التي يتم خلالها تسليم أدوات الإنتاج إلي القطاع الخاص, والأمر يستدعي من الدولة حماية الفئات الفقيرة والمهمشة والمستهلكين عموما لأن صوتهم ليس مسموعا كالمنتجين, لذلك بدأ التركيز علي منظمات المجتمع المدني وحقوق المستهلك, ومع هذه الجهات توجد أجهزة رقابية, وللأسف مصر مرت منذ السبعينيات بمراحل التحول للقطاع الخاص وتم تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في التسعينيات وبرنامج الخصخصة في96 وحررنا سوق النقد الأجنبي وخفضنا الجمارك ووقعنا اتفاقيات دولية, ولكن ظلت السوق بدون وجود أجهزة رقابية حتي تم إنشاء جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار عام.2005 ألم تكن التشريعات والقوانين المصاحبة لهذه الخطوات كافية لضبط الأسواق؟ للأسف لم يلتفت لها أحد, فعلي مدي35 سنة كانت هذه العملية تسير بدون قوانين منظمة, ولما حدثت الخصخصة حدثت لتحقيق أغراضها لكن في ظل عدم وجود جهاز لمراقبة العملية وما يترتب عليها بما يضمن عدم سيطرة تكتلات بعينها علي السوق, ومنذ التسعينيات كنا نناقش قوانين حماية المنافسة وحماية المستهلك, حتي صدر في2005 قانون حماية المنافسة, وقانون حماية المستهلك صدر عام2006, وسأتحدث هنا عما يخصني في قانون حماية المنافسة الذي تنص مادته الأولي علي أن يقوم الجهاز بمراقبة أداء النشاط الاقتصادي في مصر علي نحو لا يقيد المنافسة, فأي شخص يريد دخول مجال إنتاجي معين من حقه أن يمارسه بنفس الشروط المفروضة علي غيره ممن سبقوه في النشاط بدون تمييز, وتطبق عليه نفس القواعد والقيود أيضا سواء كان مستثمرا محليا أو أجنبيا, لضمان المنافسة في جو عادل, وعادة ما كان يقوم منتج كبير بالسيطرة علي السوق بوضع قيود علي موزعي المواد الخام مثلا ويطلب منهم عدم بيعها لمنافسيه أو توزيع منتجاتهم, وهذا يمثل قيودا علي المنتج الجديد, وهنا حدد القانون ممارسات معينة لو قام بها المنتج تعد جريمة, ويجب علي الجهاز دراستها لإثبات وجودها, ويقوم مجلس الإدارة بالاتفاق علي أنها تعد مخالفة لنتخذ قرارا بتحويلها للنيابة لتستكمل باقي التحقيق. هل يعني هذا أن للجهاز حق الضبطية القضائية؟ طبعا, فهي أساس عمل الجهاز وإحدي أدواته, حيث تقع علينا مهمة إثبات مخالفة الشركة أو الشخص للقانون الذي ينظم نشاطه, ثم نقوم بتحويل المخالفات, وهي عملية دقيقة جدا ومعقدة, ومن ناحية أخري يعتبر الجهاز جهة فنية استشارية للجهات الحكومية فقط وليس للقطاع الخاص, فلو تقدم أحد ببلاغ في هذا التخصص للنيابة تقوم هي بتحويله للجهاز للبت في القضية من الناحية الفنية وهذه تسمي قضايا طلب, ولا يحق للنيابة تحويل بلاغ للقضاء إلا بموافقة الجهاز كجهة اختصاص, وللتوضيح, فقد حولت النيابة للجهاز عام2011 دراسة قضية احتكار أحمد عز للحديد, حتي يتم تحديد ما إذا كانت هذه الممارسات احتكارا أم لا, وبناء عليه يتم تحريك القضية للقضاء أو عدمه. وما هي الآلية الثانية التي يستخدمها الجهاز لضبط المنافسة ومنع السياسات الاحتكارية؟ الآلية الثانية هي التوعية والتنبيه المسبق, بمعني أن القانون يتحدث عن ممارسات تمت وعلي الجهاز فحصها والتأكد من وقوعها ثم يحيلها للنيابة, ولكن ماذا عن ممارسات لم تقع بعد ولكن من المحتمل وقوعها؟ فلدينا بعض القوانين والقرارات والسياسات قد تخلق مناخا عاما سيئا يؤدي لوجود سياسات احتكارية, هنا يقوم الجهاز بالتحذير والتنبيه من هذه القرارات, ونشير للقيود التي تحد من قدرة المنتجين والمستوردين علي المنافسة, فنقدم للحكومة توصيات بمراجعة هذه القرارات ومعالجتها حتي يتم ضبط الأسواق, فمثلا قضية احتكار الحديد التي درسها الجهاز عامي2007,2006 توصلنا خلالها إلي أن ارتفاع الأسعار ليس نتيجة ممارسات احتكارية بل نتيجة التعنت في المواصفات التي وضعت علي الحديد المستورد من الخارج, فأدت لغلق باب الاستيراد فارتفعت الأسعار في السوق المحلية, وبالفعل تمت مراجعة المواصفات وتخفيض الضريبة ففتح باب الاستيراد وانخفض السعر مرة أخري. ولكن كيف اعتقد الرأي العام أن الاحتكار بدأ منذ ذلك التاريخ وخاصة الحديد الذي اتهم أحمد عز باحتكاره فبدأت الحملات المنددة بالاحتكار أحيانا والإغراق في أحيان أخري؟ المشكلة أن السوق المصرية تربط الاحتكار بالجريمة, وهذا جهل واضح وهنا أتحدث علي مستوي الإعلام والعامة وبعض الاقتصاديين والقانونيين أنفسهم, فالاحتكار غير مجرم بحكم القانون في مصر ولا في أي دولة بالعالم, فأحيانا يكون هناك احتكار مشروع وبقرار من الدولة نفسها, واحتكار قد يكون بسبب طبيعة النشاط الاقتصادي نفسه عندما يكون الاستثمار الذي تحتاجه هذه السلعة عاليا جدا لا يقدر عليه إلا شخص أو اثنين لأن السوق لا تحتمل أكثر, وتقتضي الكفاءة الاقتصادية أن يقتصر النشاط الإنتاجي علي شركة أو اثنتين, فالاحتكار ليس جريمة لكن المجرم هو ما يقوم به هذا الشخص المسيطر علي السوق من ممارسات قد ينتج عنها غلق السوق أمام أي منافس آخر, والقانون حدد3 شروط مجتمعة لو توفرت يصبح المستثمر مسيطرا علي السوق وهي أن يكون متحكما في ربع السوق علي الأقل, والثاني هو أن يفرض علي مورد المواد الخام بألا يبيع هذه المواد لشخص آخر غيره, وأن يكون له القدرة علي التحكم في كم العرض بالسوق بما يؤثر علي السعر بالحد من الإنتاج أو زيادته, والشرط الثالث هو عدم قدرة المنافسين في السوق علي منع أو تلاشي هذا التأثير, وقتها يكون المنتج مسيطرا, فيصبح قادرا علي تعطيش السوق, لكن الأمر مختلف بالنسبة للإغراق لأنه مرتبط أكثر بالاستيراد وليس بالإنتاج وهناك جهاز تابع لوزارة التجارة والصناعة لمكافحة الإغراق ومراقبة سعر بيع السلع, ولو ثبت بيع السلعة بسعر أقل من سعرها في الدولة المنتجة لها يمكن للحكومة فرض ضريبة زائدة علي السلعة حتي لا تضر بالصناعة الوطنية. معني هذا أن الحكومة لديها صلاحية لاتخاذ قرارات تحمي بها صناعاتها الوطنية لو تعرضت لمخاطر حقيقية؟ فعلا, فاتفاقية منظمة التجارة العالمية أعطت الحكومات صلاحيات لحماية صناعاتها الوطنية وتنظيم سوقها الداخلية. وهذه الاتفاقية تضم عدة اتفاقيات لمكافحة الإغراق واتفاقية الشرط المقابل واتفاقية خاصة بالعجز في ميزان المدفوعات, وغيرها اتفاقيات أخري تسمح للدول المشتركة إذا عانت من مشكلات إفراط في الاستيراد حتي لو كان استيرادا بشكل مشروع, ولكن قام بتهديد الصناعات الوطنية وميزان المدفوعات فمن حق الدول المتضررة اتخاذ إجراءات تعويضية برفع الرسوم الجمركية لحماية الصناعة الوطنية وفرص العمل التي توفرها لفترة معينة. هل ترين أننا في مصر نجيد استخدام هذه البنود لحماية صناعاتنا الوطنية أم أننا في حاجة لتفعيلها بشكل أكثر؟ تلك هي المشكلة, علينا أن نكون حذرين عند اللجوء لاستخدام هذه البنود, فلدينا الأدوات التي تخول لنا حماية السوق, ولكن المشكلة في توقيت وطريقة تفعيلها, والظروف التي نستطيع تحتها استخدام هذه البنود, والأمر يحتاج لكثير من المرونة والذكاء السياسي والفني. وتحديد الأولويات الخاصة بالدولة وسياستها العامة, وكيف تقوم الدولة بتبرير هذه الممارسات وكيف تدافع عن حقها في هذا الأمر, وكيف تصاغ الدفاعات والشروط حيث يجب علي الدولة المتضررة إرسالها لمنظمة التجارة العالمية لتبرير ما ستتخذه الدولة من قرارات لحماية صناعتها الوطنية مع تحديد المدة التي ستم خلالها تطبيق هذه البنود لحين زوال الضرر, فالأمر يخضع لقواعد وشروط تنظم هذا العمل, فاستخدامها لا يكون لكل الصناعات ولا طول الوقت, لأن هذه البنود متاحة لكل الدول, ولو استخدمناها بدون وجه حق فمن حق الدول الأخري استخدامها ضدنا من منطلق مبدأ المعاملة بالمثل, فالأدوات موجودة لكن يجب أن يكون استخدامها في ظل سياسة واضحة للدولة ويعمل عليها فريق فني متخصص يستطيع الدفاع عن حق الدولة في هذا الصدد بشكل صحيح. في ظل الأزمات التي تمر بها مصر فيما يخص العملة الصعبة, هل من دور للجهاز في هذه الأزمة؟ دور الجهاز في حماية الصناعة الوطنية يقتصر علي ضمان حماية قواعد المنافسة في عملية الإنتاج وليس ضبط الاستيراد وتحديد أولوياته, بمعني أننا نراقب ضبط قواعد المنافسة بحيث لا يسيطر عليها اثنان أو ثلاثة فقط ويمنع الآخرين من المنافسة في مجال معين, وبهذا نحمي الصناعة الوطنية بتوفير الفرصة للعديد من المنتجين لدخول مجال المنافسة بشكل يصب في النهاية لصالح المستهلك والصناعة, فنحمي المنافسة حتي يزيد الانتاج ويزيد العرض وبالتالي تزيد فرص العمل وتنخفض الأسعار, لكن تحديد أولويات الاستيراد هي جزء من السياسة الصناعية للدولة نفسها. من يستطيع أن يتقدم للجهاز ببلاغ؟ هل يجب أن يكون شخصية عادية أم شخصية اعتبارية؟ للأسف أي شخص من حقه التقدم للجهاز ببلاغ والجهاز ملزم بفحصه. لماذا كلمة للأسف؟ لأننا نتلقي عددا كبيرا من الشكاوي الكيدية وشكاوي من أشخاص غير مدركين لطبيعة عمل الجهاز, وأحيانا نتلقي شكاوي من أشخاص ضد جيرانهم يتهمونهم بتخزين الأرز لاحتكاره, وعندما توليت رئاسة الجهاز لاحظت وجود شكاوي عديدة لا علاقة لنا بها, وبعضها متعلق بجهاز حماية المستهلك أو مكافحة الإغراق أو الغش التجاري وسرقة العلامات التجارية, لدرجة أني رفضت تلقي شكاوي عبر الفاكس أو البريد بنوعيه واشترطت حضور مقدم البلاغ بنفسه حتي نفهم منه المشكلة ونوضح له الأمور إذا ما كان هناك فهم خاطئ منه لدور الجهاز. هل هذا من باب عدم الوعي أم قد يكون من منطلق عدم ثقة المواطن في بعض الأجهزة الرقابية ظنا منه أنها لن تهتم بشكواه؟ الاثنان معا, فجزء من المشكلة هو جهل المواطن بالقانون ولا أحد يهتم بقراءة القوانين الخاصة بالنشاط الذي يمارسه وخاصة قوانين المنافسة, ومن ناحية أخري هناك عدم ثقة في بعض الجهات الرقابية. ما هي أهم القضايا التي قام الجهاز بفحصها وتوصل فيها لنتيجة مرضية, وما هي نسبة القضايا عموما؟ في العام الحالي احتفلنا بمرور عشر سنوات علي إنشاء الجهاز وبدء تطبيق القانون, وخلال هذه المدة حققنا في176 قضية, بعضها كان بمبادرة من الجهاز أو بطلب من النيابة أو بعض الجهات الرقابية بناء علي بلاغات, وأغلب المخالفات التي ضبطت كانت بمبادرات من الجهاز, ومن بين176 أثبتنا17 حالة مخالفة فقط, منهم تسع مخالفات خلال السنوات الثلاث الأخيرة, وهذا يعطي مؤشرا علي وجود تراكم معرفة وتطور في الأداء. هل يعني هذا أن هناك صعوبة في العثور علي الكوادر المتخصصة المناسبة للعمل بالجهاز؟ بالفعل, ولكن ليست هذه الصعوبة الوحيدة, فعلي مدي عمر الجهاز تم تدريب الكثير من الكوادر الجيدة التي أصبحت كفاءات رائعة يصعب وجود مثلها, ولكن المشكلة الأكبر الآن أن هذه الكفاءات أصبحت تتسرب من الجهاز حيث تأتيها فرص عمل أفضل في جهات خارجية بمرتبات مضاعفة. وماذا عن موازنة الجهاز؟ موازنة الجهاز تابعة للدولة, ولا أخفي أن للجهاز ميزانية جيدة, ولكن ليس لنا الحق في استخدامها بما يناسب طبيعة العمل بالجهاز, حتي إننا كل عام يتم ترحيل جزء كبير من الميزانية للعام التالي دون استخدامها.