تدفقت عيون السماء غزيرة بالدموع, ملأت البقاع والوديان, الشوارع والأرصفة, تسلقت البيوت والحانات, دخلت المنازل والمحال, غمرت الحجرات والأفنية وفاضت.. إنبعثت الشرارات من وهج الرعد وأعمدة النور, تدانت أصوات استغاثات وانكسارات, انحشر الناس في الباصات والعربات والشرفات, ومن أعلي الجبل نادي الابن الضال, مهللا بالنجاة.. فأتاه صوت الأب مزلزلا: ما من عاصم اليوم من قضاء الله. لن تمنحك قمم الجبال والتلال الأمان.. حمل الأب طفلية المبللين وشمر سرواله وعبر بهما نهر الطريق آمنا لساحة منزله.. فيما طفت جثة واحد من الصبية بالقرب من أحد الدكاكين, تحلق الناس من بعيد, يحملقون في هلع, يخشون الإقتراب, ينظرون للعمود الفضي تبرز أحشاؤه.. ويشتمون رائحة الموت. زعق أحد المجاذيب من فوق سطح ميكروباص: جاء الطوفان يا أولاد الزواني. برز سور الكورنيش بحافته العليا في مدينة الإسكندر الاكبر, كطفل يقب برأسه في حذر, يرقب المارة والعربات, تحوطه المياه من أمامه ومن خلفه.. خمن بعض الناس خلف شاشات التلفاز: ياتري في أي ناحية يكون البحر في هذا المشهد العجيب؟. تتابعت المشاعد كلوحات هزلية.. كفقرات في سيرك, لأناس يعبرون فوق القوارب المطاطية وفوق الكراسي.. وهناك من يحمل الأشخاص مقابل النقود خشية البلل!. الماء الذي كنا نستهين به ولا نعره التفاتا, صار كالوحش.. يحاصر القري, يغرق الزراعات والساحات, يلتهم في جوفه الناس والبيوت.. الماء الذي كان يتدفق من الصنبور أليفا طائعا, نشكله كيفما شئنا في أكواب وقوارير مختلفة الأحجام والأشكال وندلقه في أي مكان انقلب جبارا ضاريا لا يخشي أحدا ولا يقوي أحد علي الوقوف أمامه و صده بدأت أسراب الماء في التجمع.. فوق الجبال والتلال.. من سيناء الي سلسلة جبال البحر الأحمر مرورا بوادي النطرون.. تحشد قواها, وتجهز خطتها, إستعدادا للإنقضاض علي السهول والأودية, لتقتلع الأخضر واليابس. الطوفان قادم.. من ينقذنا؟. اتجه النساك في الصوامع بالدعاء.. والرهبان في الكنائس والأديرة بالصلوات.. فيما بدأ الشباب في التجمع والمشورة ونبذ الخلافات, يتوسطهم الصبية والأطفال.. أخذوا في الغناء بأصوات محببه رخيمة, مفعمة بالتفاؤل والأمل.. أتوا بكميات ضخمة من الألواح الخشبية والعوارض والدكمات, والأوتاد والخوابير والمسامير الصلدة.. همس أحدهم مفصحا: لن تنقذنا سوي سفينة نوح. وشرعوا في الغناء