أعطي لصديقه البرقية وعدة جنيهات وأكد عليه إرسالها هذا المساء, ثم صافحه وانصرف. هذا المساء, كان طويلا, مد لهما, لم يظهر في سماه أي نجم, فسلك يده في درج مكتبه, أخرج عدة خطابات.. زرقاء.. بيضاء.. وردية.. موف وجعل يتفحصها واحدا تلو الآخر. تتوقف يده, وبلا وعي أمام أسطر بعينها.. فتتزاحم في رأسه الصور, وتتكثف فيها الأخيلة, وثمة عبوس مفاجئ يدهم قلبه وعقله... فينسل لتوه إلي خارج الحجرة الرطيبة, تتشابك في رأسه خيوط عديدة, وتعلوها هالات شتي, فيهرع حثيثا إلي رأس الكورنيش.. وإذ يبتعد قليلا جهة البحر الموغل في الظلام, تفاجئه النوة ويحاصره الإعصار, يزفر في حنق, يقفل عائدا إلي حجرته الرطيبة, يتكور في فراشه تتقطعه الأفكار وتعتصره الظنون, وثمة مدافع ساخنة ملتهبة من الأبخرة, تندفع من منخريه, ورعشة يكاد يتفصد منها جسده, وثمة سؤال ملح يتردد في رأسه ويعاود بعنف: أكان ذلك وهما.. أكان سرابا...؟ فيأتيه الجواب عبر الظلام المحدق بالمكان بالنفي وهاتفا يصيح به: لقد أخطأت الطريق.. لقد أخطأت الطريق فعاد يتشابك مع أفكاره ويتصارع مع هواجسه والسؤال ذاته يلح ويعاود.. أكان ذلك وهما.. أكان سرابا.. أكان..؟! تداخلت مشاعره, اختلطت والصوت يكرر ويعيد, في نبرة أشد, وثمة ريح باردة تتسلل إليه عبر فتحة الباب الموارب, فينكمش ويتداخل في بعضه, بينما يدفع بالقضيب المعقوف ضلفة الباب, ويمزق الخطابات ويلقمها النار المستعرة في المجمرة أمامه. (2) احترام عهده جالسا في قاعة الشعر, في جمع غفير من الحضور... وبالرغم من الضجيج والضوضاء والتشويش والتناحرات, تغلف جو المكان.. كان جالسا في هدوء يقلب في دفتر إبداعاته الملئ, لا يبدي أدني استياء ولا يجاهد أقل مجاهدة, فارتفع قدره في نظره, وتأكد لديه معني احترام الذات. عصام الدالي