في الوقت الذي نويت فيه انتزاع الروح من الجسد لإطلاقها في فضاءات سرمدية مارس الجسد سطوته وانطوي عليها مخفيًا عني ملامحها ثم تكور وانحدر بشدة نحو سهول خضراء تسر الناظرين ولكنها محرمة علي الغرباء إلا هذه العجوز... العجوز التي لم تكن ذات يوم شابة كانت تجلس وحولها جماجم لمخلوقات كثيرة وإلي جوارها ثعبانها الأثير تمسح علي ظهره وهو مستسلم لكفها الناعمة فاتحًا فمه ومستقبلاً كل ما تقذفه فيه من حمائم وقابضًا عليها بكل ما أوتي من رغبة مستمتعًا بابتلاعها مرة واحدة وهي تتلوي في محاولة فطرية يائسة للقبض علي شيء من الحياة فتظل الرأس خارج الفم يتنفس ما تبقي له من هواء ثم يذهب إلي الأعماق السحيقة.. العجوز رأت أن تؤدب ثعبانها الذي تباطأ ذات يوم لسبب غير معلوم في تلبية ندائها فقررت أن تعيده إلي أمه الأرض كما خرج منها أول مرة فأحضرت الحمائم وذبحتها هذه المرة وملأت بطونها بالجير الحي وبدأت ممارسة طقوسها اليومية بالمسح علي ظهره حتي يفتح فمه ولكنه لم يستجب هذه المرة وقد امتلأت أنفه برائحة مختلفة لفت المكان واكتفي بنظرة عتاب فهمتها فتحدثت إليه وقد اتسعت عيناها أكثر من اللازم عن خطاياه التي ارتكبها من غير قصد أو بقصد وهي لا تتوقف عن المسح علي ظهره حتي تورم جلده وطفحت منه دماء غريبة اللون فبدلت بيدها الخشنة يدًا أكثر نعومة فانفتح الفم عن غير رغبة وبدأت الحمائم تُقذف في الهوة الواسعة بلا مضغ ثم كان انفجارٌ هائلٌ وتناثرٌ لأشلائه وضحكات غطت علي كل شيء فطارت الطيور من أعشاشها ونعقت الغربان وحلقت الحدآت وملأت السماء.. العجوز قامت من فورها وسحبت ما تبقي من ثعبانها وألقت به في حفرة حفرتها سلفًا وردمت عليه وصوته يأتيها ممتزجًا برائحة الموت ومتشبثًا بالحياة و مستغيثًا بكل ما فعله من أجلها فلم يزدها ذلك إلا إسراعًا بلا أي ارتباك فتواري خلف صمته تاركًا للتراب المنهال عليه كل فرصة كي يعيده إلي أحضان الأم.. العجوز التي كثرت حولها شواهد القبور أصابها الملل فجلست وحدها لا تنظر إلي شيء محدد حتي وقعت عينها علي قريتنا التي لفتت نظرها بذلك الصخب الآتي منها فأصابها شيء من الانزعاج فأقسمت بكل ما أوتيت من غيظ وغل أن تنتقم من هؤلاء ولكنها سرعان ما تراجعت أمام الفتور الذي سري في كل عظامها فارتخت أظفارها الأزلية وراحت ترفع صوتها بالغناء فاهتز المكان.. وتساقطت أوراق الشجر.. فزعت الطيور مرة أخري.. فاشتدت الظلمة.. وتوقف الهواء تمامًا فساد إحساس بالاختناق.. العجوز التي لم تشعر بالاختناق من قبل إلا حينما دفنت وليدها الوحيد ذات مساء ثم دفنت أباه في صباح اليوم التالي بدأت تشعر بالاختناق فحملت حاجياتها وراحت تتوكأ علي العصا التي تنتهي برأس يشبه رأس ثعبانها الأثير حتي وصلت إلي كوخها واستلقت علي ظهرها في محاولة يائسة للنوم بدأتها بالبكاء ثم النهوض والطواف حول شجرة شوك زرعتها بيديها ثم الاستلقاء ثم الجلوس والبكاء مرة أخري ولكنه كان بكاءً مكتومًا تحول إلي غيظ من كل شيء فنفخت في الهواء نارًا زرقاء تطايرت متحولة إلي حمم حمراء تضيء الظلام الذي يحتويها ثم يبتلعها حتي عاودتها صورة قريتنا فمدت يدها إلي كيسها المصنوع من جلود ثعابين عدة وتناولت منه حصاة سوداء طوحتها في يدها ثلاث مرات ثم ألقتها فارتفعت في السماء .. ارتفعت.. ثم سقطت بعد أيام علي قريتنا أمام عتبة صديقنا الذي أخذ هيئة ابنها وطباع زوجها وذكاء ثعبانها فداس عليها وهو خارج بعد العشاء يغطيه الحزن اليومي فأحس ببعض الألم لكنه لم يبال فاخترقت عروقه حرارة غريبة وصلت حتي رأسه فغطاه العرق وسقط يرتعد.. أقبلنا عليه نحمله.. مال أحدنا وراح يتمتم في أذنه اليمني فازداد تشنجه ونشيجه ثم هدأ شيئًا فشيئًا وفتح عينيه عن آخرهما فرأينا عينيه تدوران في كل اتجاه وفيهما لمعان مريب جعل كل منا ينتهز الفرصة وينسحب إلي بيته وشعر رأسه واقف تفزعه قدمه إذا داست فوق صفيحة أو عثر في حجر ويتواري لنقيق ضفدع حتي وصل الجميع إلي الدور فألقوا بأنفسهم في أقرب مكان في صمت أخرس.. بينما وقف هو ناظرًا نحو نجمة في السماء يظهر فيها وجه كوجه محبوبته الندي العفي البري البريء الجريء يدعوه من العالم الآخر بشيء من الإصرار والرغبة المرعبة حتي تبعها في إسراعها نحو الغرب و مر بي وأنا جالس أطرد ما في نفسي بكوب شاي ولم يعرني اهتمامًا فجريت خلفه قاذفًا الكوب الذي أفزعني صوت ارتطامه بالحائط فلم ينتبه..لامسته.. أمسكته وهززته صارخًا فيه فمضي مسرعًا.. عرقلته فسقط ورأسه معلق في السماء ثم نهض حتي وصل إلي مشارف الجبل الذي يقع خلفه السهل الذي تسكنه العجوز..رأيته يصعد الجبل فأخرجت سكينًا متخذًا قراري بانتزاع روحه وتحريرها مرتلاً آيات التحرر باكيًا حتي وصلنا إلي قمة الجبل فتراءت لنا فضاءات سحيقة وأنوار عجيبة فراح يغوص فيها يجذبه نور نجمته التي كانت تتحرك مع حركة عصا العجوز حتي سقطت والتصقت برأسها في حركة سريعة.. هم أن يرمي نفسه من هذا الارتفاع فأمسكت به في محاولة أخيرة.. أظهر استجابة حتي انتهت تراتيلي.. عاود الجسد سطوته فتكور حول نفسه وانزلق نحو السهل في سرعة عجيبة.