كان النبى صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الكبر والخيلاء، وأعظمهم تواضعاً. ومن مظاهر ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ حاجباً ولا بواباً بل كان يخالط الناس فى كل مكان، فى المسجد، وفى السوق، وفى البيت، وفى السفر، وفى الحضر. ومن مظاهر ذلك أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم فى حال التعلم كان معلماً حليماً رحيماً متواضعاً يخاطب المتعلمين بألين الكلام فيقول لهم مثلاً: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم". ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم أرفق الناس وألطفهم بالمتعلمين، فهو خير من يقدر الظروف، ويراعى الأحوال، ويسع الناس جميعاً بخلقه العظيم. والأدلة على ذلك كثيرة منها: (1) ما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحة بسنده من حديث أنس رضى الله عنه قال: بينما نحن فى المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول فى المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِمُوه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هى لذكر الله تعالى، والصلاة، وقراءة القرآن. قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. فلفظة: (مه للزجر واللوم، ومعناها اكفف. وقوله: لا تزرموه من الإزرام، وهو: القطع. أي: لا تقطعوا عليه بوله. وقوله: فشنه أى صبه أو رشه عليه رشا متفرقا، فالشن: الصب المتقطع، والسن: الصب المتصل. ووجه الدلالة فى هذا الحديث: أن النبى صلى الله عليه وسلم تَرَفَقَ بالأعرابى الذى بال فى المسجد ولم يُعنفه بل نهى أصحابه رضى الله عنهم عن تعنيفه، وأمرهم أن لا يقطعوا عليه بوله، ثم علمه برفق بعد أن أمر أحد الصحابة رضى الله عنه بمعالجة ما صنعه الأعرابي. (2) وما أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث أبى إمامة رضى الله عنه: أن فتى شابا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ائذن لى في الزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال صلى الله عليه وسلم: ادنه، فدنا منه قريبا. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله - جعلنى الله فداءك - قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله - جعلنى الله فداءك - قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله - جعلنى الله فداءك - قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلنى الله فداءك - قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله - جعلنى الله فداءك - قال: ولا الناس يحبونه لخالتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء فتقريب النبى صلى الله عليه وسلم هذا الشاب الذى أتاه يستأذنه فى الزنا منه صلى الله عليه وسلم، ومخاطبته بلطف، ووضع يده الشريفة عليه، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم، كل ذلك من مظاهر رفقه ورحمته صلى الله عليه وسلم فى مقام التعليم.