حسنا فعلت الحكومة بإعلان تشكيل لجنة لمكافحة الفساد برئاسة وزير العدل و عضوية عدد من الوزراء والسيد المستشار النائب العام, و حسنا أعلنت قبلها عن لجنة للنزاهة و الشفافية بوزارة التنمية الإدارية لمكافحة الفساد في الجهاز الإداري للدولة الحكومة بذلك تستجيب للاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد, و تعمل علي إظهار إلتزامها ببنودها علي مراحل و في خطوات تبدو لكنها افضل من لا شيء. وهي خطوات بطئية لأن الفساد في مصر تحول من ظاهرة إلي سلوك خاطيء متكرر في حياة المصريين, و هو لا ينتهي كما هي العادة بإهدار المال العام, و لكنه أصبح واحدا من أدوات إهدار حيات المصريين علي الطرقات العامة, بعد أن أثمر الفساد إهمالا إداريا خطيرا يعبث بحياتنا اليومية. في مصر عشرات الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد, منها ما هو إداري تنفيذي, و منها ما هو رقابي شعبي, ومنها ما هو غير حكومي من مكونات المجتمع المدني, و منها ما هو إعلامي, إلي آخره من الأدوات التي لم تتمكن من محاصرة الفساد و منعه من التفشي في العديد من جوانب المجتمع. و ربما لا يتعامل البعض مع الفساد بإعتباره سلوكا لا يقتصر علي القطاع الحكومي و العام, و إنما يمتد ليشمل أيضا القطاع الخاص, الذي أصبح جزءا من الظاهرة, ليس في علاقته بالقطاع العام و تشجيعه علي الفساد في داخله, و إنما أيضا في أدائه الداخلي كقطاع يفرز مظاهر فساد تصيب المجتمع كله بالضرر.. فالفساد إذن لا يقتصر علي القطاعات الحكومية الرسمية, حتي نكتفي بمحاربته في هذه القطاعات و نهمل القطاع الخاص القادر علي مفاقمة ظاهرة الفساد أكثر مما هو قائم فعليا. الحاصل أن الحكومة تتحرك نحو بنود الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد, و إن أعلنت عن أرقام هواتف تتيح لها تلقي شكاوي من الفساد أو بلاغات عنه, فإنها بذلك تسهم بحيوية في مكافحته, و إن كانت هذه الخطوة مازال ينقصها الخروج من مجال الفساد في الجهاز الإداري بالدولة إلي آفاق أوسع في الإبلاغ عن الفساد في كل قطاعات الدولة. والشاهد أن كل هذه الخطوات رغم أهميتها مازال ينقصها الكثير و الكثير للحديث عن إلتزام مصري فعال باتفاقية مكافحة الفساد, نظرا لتأخر مصر لفترات طويلة في اتخاذ إجراءات فعالة في مكافحة الفساد الذي إستشري و تحول إلي فساد شعبي لا يقتصر علي الهيئات و المؤسسات و إنما انتقل للبشر في سلوكياتهم اليومية. وقد يري البعض أن مكافحة الفساد مسألة سهلة تقتضي إصدار مجموعة من التشريعات و القرارات الإدارية الكفيلة بتحقيق الهدف, و هي و إن كانت كذلك إلا أنها ليست و بالسهولة التي يعتقدها البعض, فمكافحة الفساد في الأساس تقتضي محاربة ثقافة بشر و تغييرها, و كلنا يعرف صعوبة تغيير الثقافة و تصحيح مسارها في وعي الناس. لكن هذه الموانع لا تجعل من مكافحة الفساد مستحيلا, قدر ما تجعل منها تحديا يستلزم إرادة جادة و قوية تقود المواجهة وتوفر الأدوات المطلوبة لإنجاحها, من خلال سياسات تستحث الناس علي المشاركة في مكافحة الفساد. وحرية تداول المعلومات و الحق في الحصول عليها, تمثل الفريضة الغائبة في عملية مكافحة الفساد في المجتمع, فلا قيمة لكل التدابير و الإجراءات التي تتخذها الدول و التشريعات التي تسنها في عملية مكافحة الفساد دون توفير الحق في الحصول علي المعلومات. والشاهد أن هذا القانون القادر علي تسييل المعلومات و اتاحة الفرصة في الحصول عليها, لا يتعلق بالصحفيين فقط كما يعتقد أو يروج البعض, إنما هو من القوانين الحاكمة في أي مجتمع, فبدونه تظل حلقة الوصل بين خطوات مكافحة الفساد ناقصة و فاقدة للرابط بينها. ويعد حق الحصول علي المعلومات الوسيلة الملائمة لعمل كل أفراد المجتمع و مؤسساته في مكافحة الفساد, فمن خلاله يمكن للإعلاميين تتبع أشكال الفساد في المجتمع, و يمكن للمواطنين تقصي المعلومات و الحقائق عن أداء الحكومة أو الجهاز الإداري للدولة, و يمكن من خلاله أن يتلمس رجال الأعمال الحقائق في سوق العمل و المضاربات في البورصة. قانون تداول المعلومات و حق الحصول عليها يساند المجتمع الديمقراطي في الحفاظ علي حقوق الحريات العامة و حقوق التعبير, و هو يتيح للحكومات القدرة علي تبين مواضع الخلل أولا بأول, و من ثم فهو القادر علي حماية المال العام من الإهدار و مواجهة الفساد و المفسدين سواء في الجهاز الإداري للدولة او في القطاع الخاص. ستظل جهود الدولة المصرية في مكافحة الفساد ناقصة إذا لم تجعل من حرية تداول المعلومات الوسيلة الأقوي و الأداة الرئيسية في هذا المجال, فإتاحة البيانات والمعلومات هي الخطوة الاولي للشفافية و إعلام الناس بما يدور في كل دوائر الدولة و ليس الحكومة بمفردها. لقد اقرت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد حق الدول في اتخاذ التدابير التي تتيح لها حماية أمنها القومي و النظام العام, و ذلك بما لا يخل بحق الناس في الحصول علي المعلومات, و هنا يمثل القانون العنصر الحاكم الضامن لحماية الأمن القومي و حماية حقوق الناس في آن. [email protected]