يقول المثل من فات قديمه تاه, وهو ما ينطبق بالفعل علي واقعنا المرير, الذي نتوه فيه بين متطلع لحضارة قوية كحضارات الغرب المضيئة , وما بين متقوقع يعيش في الماضي وينتهج نهج السابقين في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وعاداتهم. لا شك أننا نمر بأزمة هوية شديدة, وضعتنا أمام تحد شديد الصعوبة, إما أن نختار الحفاظ علي حضارتنا ونكتفي بها, وإما أن نترك كل ما ورثناه خلفنا ونركض للحاق بقطار الحضارة الغربية السريع. فتاه المجتمع في دوامة صراع عقيم لا يجد فيه العقل الوسطي المستنير من يستمع إليه, فأزمة الهوية تلك تناولها الكثير من الكتاب والمفكرين والأعمال الدرامية التي تطرق بعضها للهوية المصرية بالتحديد, هل هي فرعونية أم قبطية أم إسلامية أم عربية أم إفريقية أم ساحلية, ليتطور الأمر الآن إلي أزمة هوية الأمة العربية بكاملها, لنجد أنفسنا أمام سؤال مهم وضعنا أمامه الغرب وحاول إقناعنا به ومغزاه: هل الإسلام سبب تخلفنا؟ لقد تخطي الأمر بالفعل أزمة الهوية الحضارية إلي دائرة أخطر وهي العقيدة, وللأسف.. فرغم سهولة المسألة إلا أن الخطأ كان في طرحها علي العامة بشكل مكثف تسلطت فيه الأضواء علي مشككين أكثر من تسلطها علي مفكرين يحملون مشروعا فكريا متكاملا, فاشتعلت صراعات فكرية معظم من تحدثوا بها جهلاء لا يقدمون أي حلول للخروج من الأزمة, بل زادوا طينها بللا, ولو أنهم بحثوا لوجدوا أننا لا نحتاج لاختراع العجلة, فهناك من سبقنا واخترعها بالفعل, فأزمة الهوية تلك قتلت بحثا, ويكفي أن أذكركم بتجربة مفكر كبير مثل زكي نجيب محمود الذي خاض رحلة طويلة للبحث عن هوية عربية جديدة لخصها في كتاب توبة قلم, فقد انكب في بداية مشواره علي التراث العربي, واعتنقه كمذهب لإحياء الحضارة العربية القديمة لما بها من أصالة, ثم تحول تفكيره للنقيض بعد التحامه بالحضارة الغربية الجديدة وبريقها الذي سلب لبه لسنوات طويلة عاش فيها مبشرا بضرورة اعتناق هذه الحضارة المادية لنبني حضارتنا دون النظر للتراث, ولكن تشاء حكمة الله أن يمد في عمره ليدرك أن حضارة تقوم علي العلم المادي وحده هي حضارة عرجاء, فيضع منهجا يمكننا الأخذ به لبناء عقل عربي وحضارة جديدة, قوامه الأخذ بأسباب العلم الحديث وتحرير العقل العربي من قيوده الواهية وهو ما لا يعارضه الإسلام المحرض علي العلم والتفكر, بجانب التمسك بالهوية الحضارية والبحث في التراث عن الكنوز المفيدة والتي انتجت من قبل حضارة عربية قوية كانت هي أصل الحضارة الغربية الحديثة رغم انكار الغرب لهذه الحقيقة التي يضطر للاعتراف بها أحيانا علي استحياء, كما فعل عدد من المفكرين الأجانب ممن أكدوا فضل الحضارات الشرقية في نشأة الحضارة الغربية الحالية التي يحاول الغرب الآن تصديرها كنموذج الحضارة الأمثل لفرضه علي الشعوب رغم ماديتها البحتة التي سلبت الإنسان روحه وغيبت عقله وحولته إلي آلة مستنسخة, في حين جمعت الحضارات التي نشأت في الشرق سواء كان الشرق الأدني أم الأقصي عوامل التقدم المادي والروحاني معا, فحافظت علي توازن الشخصية الشرقية, وهو ما أثري تلك الحضارات, ويطلق المتخصصون علي نتاج هذه الحضارات اسم تراث وهو الإرث الموروث من الأجداد بكل ما هو قيم من علوم وآداب وفنون وقيم روحية وأخلاقية, وهذا التراث بالتحديد هو ما يحاول الغرب الآن محوه من أذهان الشعوب الشرقية ووجدانهم حتي يصبحوا أكثر قابلية للعولمة التي تبشر بها حضارتهم المستنسخة, وقد بدأ الأمر منذ سنوات بتزوير التاريخ العربي وتشويه رموزه لعزل الأجيال الجديدة عن جذورهم وزعزعة ثقتهم بمجتمعاتهم, لنجد أنفسنا الآن أمام محاولة جديدة لتشويه التراث الديني تمهيدا لمحوه بالكامل لنبدأ في مرحلة جديدة تصبو لها العولمة وهي الديانة العالمية أو اللادينية. الأمر الذي يفرض علينا أن نكون أكثر وعيا بالمعركة التي نخوضها حتي يتثني لها الفوز فيها. فتراثنا العربي حصان لو أجدنا ترويضه لربحنا به قصب السبق, ولو أضعناه فستذهبت ريحنا هباء. [email protected]