دخلت مارسيل المكتب متشحة بالسواد ووجهها يحمل تلك الملامح التي أعرفها جيدا حين يدب خلاف بينها وبين حماتها, أو يحدث سوء تفاهم مع زوجها إدوارد, أو تشتبك في معركة معتادة مع إبنها البكري جورج هي صديقتي منذ سنوات طويلة, ولكنها ليست سنوات عادية قد لا تكون حقبة زمنية تتشابه في طولها مع معارفي وصديقاتي من أيام المدرسة أو الجامعة, أو حتي قريباتي اللاتي بدأت علاقتي بهن منذ خرجت إلي الدنيا, ولكن يبدو أن طول الزمن وقصره لا ينبغي قياسه بعدد السنوات فأنا أمضي معها وقتا أطول من ذلك الذي أمضيه مع زوجي وأبنائي. حين رأيت وجهها عرفت ما بها إنها كارثة كنيسة الإسكندرية التي استهلت بها مصر كلها عاما ميلاديا جديدا كان غضبها جما ولوعتها شديدة شعرت للمرة الأولي منذ عرفتها أنها مسيحية تتحدث إلي مسلمة وليست صديقة تتحدث إلي صديقتها. وجدت تفسيرها لما حدث مغايرا تماما لتفسيري. كفاية بقي إللي بيحصل فينا ده! مضطهدين وسكتنا! بيتفوا( يبصقون) علينا في الشارع وسكتنا! بيسألونا عايشين إزاي في البلد وبنقول كله زي الفل ومافيش مشاكل علشان دي مهما كان بلدنا برضه وسكتنا! لكن القتل بالمنظر البشع ده,.. لأ كفاية! فجأة تبلور الجزء المغلوط من ملف الأقباط أمام عيني أعرف تماما أهمية هذا الملف وحيويته وقدرته المذهلة علي الاشتعال, وكذلك مأساة السكوت عليه وتجاهل فحواه والاكتفاد باللف والدوران حوله وأعرف تماما ايضا أن مارسيل تفكر في المسألة القبطية بطريقة مماثلة, وإن كنت أقدر تماما أنها بحكم كونها قبطية وربما تكون أكثر شعورا بحجم المشكلة وأبعادها, وربما ايضا تساورها بعض الأحاسيس المبالغ فيها شأنها في ذلك شأن كل من يشعر بأنه عرضة للظلم أوالتمييز لكن أن تعتبر ما حدث عملامسلما موجها إلي الأقباط, فهذا ما لم أتصوره ابدا. لم يكن مجديا أن أشرح لها وجهة نظري وتفسيري لسبب بسيط, فهي لم تكن تسمع ما يقال حولها كانت منغمسة تماما في غضبها ورغم أنني لم أوافق علي أغلب ما قالته, لكنني التمست لها كل العذر. طبعا دي آخرة طناش الحكومة! ودن من طين والتانية من عجين! وآخرتها ايه؟ هيسيبونا كده لغاية ما نتذبح في الشارع؟! وعبثا حاولت أن أشرح لها أن طناش الحكومة ليس موجها, وأنه طناش عام, وأن المتطنشين( أي الذين وقع عليهم فعل الطناش هم المصريون سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين) لكنها لم تسمع, ولو سمعت لم تقتنع! فجأة تبخرت كل أحاديثنا عن أوجاع كيلو السكر الذي كسر حاجز الجنيهات السبعة, وعن مهزلة المرور الذي تحول إلي ساحة قتال لا تخضع إلا لقانون الغاب, وعن كارثة التعليم التي تقضي علي أجيال المستقبل وهي في مهدهاوعن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا المهلهل الملامح ولم أجد علي ساحة الحوار سوي أوجاع المسيحيين وجبروت المسلمين وتجاهل الحكومة لما يحدث للمسيحيين! فجأة صاحت قائلة أنا كنت حاطة صليب واحد في العربية, النهاردة رحت حاطة ثلاثة صلبان!! هه وهنشوف بقي هيعملوا إيه؟! هنا تذكرت ما قالته لي مجموعة من الشباب والشابات الذين لجأوا إلي بريطانيا في مطلع التسعينيات هربا من المجازر والمذابح التي كان يتعرض لها أهل البوسنة سألت أحدهم عن حجم تدين المسلمين في البوسنة, وإن كان ذلك يستفز البعض رد بسرعة قائلا: لم يكن هناك أي تمسك حقيقي بالدين, وبعد تعرضنا للاضطهاد والاغتصاب والقتل لمجرد أننا مسلمون, بدأ الكثيرون منا يقرأون ويبحثون في السبب الذي جعلهم عرضة لأبشع أنواع الاضطهاد, وانجرف البعض في طريق التطرف الديني! إذن هكذا يتطرف البعض. شعرت بخوف مباغت وتخيلت السيناريو! المسيحيون يشعرون بأنهم باتوا مهددين لمجرد أن خانة الديانة مكتوب فيها مسيحي فيمعنون في الإعلان عن ذلك. وبالطبع لن يسكت المسلمون, فيسارعون إلي الرد من خلال المنافسة في الإفراط في التعبير عن إسلامهم! وكلمة من هنا وكلمة من هناك, وتشتعل الدنيا! وسواء اتضح ان مقترفي حادثة الإسكندرية الإجرامية هم من تنظيم دولي أو إقليمي, أو انهم ينتمون لجماعات بدت تصدر أنشطتها الإرهابية خارج حدود الدول التي كانت تنشطت فيها خلال السنوات السابقة, أو انها قررت أن تنشر أعمالها الإجرامية في مصر أو لم يثبت ذلك, وبعيدا عن تفجير كنيسة الإسكندرية رغم فداحته, إلا أن المهم هو أن يتم فتح ملف أقباط مصر فإذا كنا نصرخ من فظاعات المرور وحوادثه القاتلة التي تمر مرور الكرام,فإن ضحاياها مسلمون ومسيحيون وليست موجهة لفئة دون أخري وإذا كنا نعاني الأمرين من ارتفاع الأسعار غير المبرر وغير المنطقي, فإن المعاناة موزعة بالعدل والقسطاس علي الجميع ايضا وإذا كانت أصواتنا قد بحت من كثرة شكوانا من نظام التعليم العقيم والمتردي, فإن بحة الأصوات أصابت الكل ايضا, ولم تصب المسيحيين فقط, أو المسلمين بأعينهم! أما تفجير الكنائس فموجه إلي المسيحيين, وتفجير المساجد يعني أن المسلمين هم المقصودون! وربما يعجل هذا من الشعور الرسمي بضرورة فتح الملف دون الأحضان والقبلات التي تجمع الهلال والصليب, ودون عبارات الوحدة الوطنية الرنانة, وكلمات قطبي الأمة المدوية, وشعارات نسيج الوطن الواحد الواهية فهي للأسف الشديد تحولت خلال السنوات الماضية إلي مواضيع تعبير رديئة كتلك التي يكتبها الأولاد في الصف الأول الإعدادي بناء علي نقاط محددة سلفا, وفي حال الخروج عليها يتعرض الطالب للعقاب كما أصبحت مجرد كلمات جوفاء كتلك التي نسمعها في الأحاديث الرسمية التي لا يصدقها أحد. صحيح أن البعض منا يشعر بها تماما لأنه يعيشها, أو بمعني آخر لأنه علي درجة من الوعي والذكاء الذي يؤهله لأن يبني علاقاته الإنسانية والاجتماعية بناء علي ماهية الأشخاص وليس بناء علي ما هو مكتوب في خانة الديانة التي ينبغي إلغاؤها فورا, إلا أن كثيرين يحملون الضغينة للآخر هذه الضغينة لها أسباب يسردها كثيرون ليلا نهارا منذ سنوات فالعائدون من الخليج والمصطحبون معهم لأفكار لا يفقهون منها سوي المظاهر الخادعة والعائدات بعد سنوات من العمل وهن ملفحات بعباءات سوداء مطرزة بالترتر ومعتقدات بأنهن صاحبات الدين الحق وكل ما عداهن فهو فاسق ومصيره جهنم, ونظام التعليم المتردي الذي سمح لمدرسين يحملون معهم أسوأ ما في التطرف الديني المبني علي أفكار مغلوطة والمشبع بمعتقدات غريبة عجيبة ينقلونها بكل حرص وأمانة إلي عقول الصغار, وخفوت الصوت الديني الوسطي وانشغال الكثير من رجال الدين الفاهمين والواعين لما هيه الدين بشئون لا تمت بصلة إلي واقع الحياة الذي نعيشه في القرن ال21, وإطلاق الحريات التامة للعشوائيات السكنية لتحيط بغالبية الأحياء مطلقة فكرها العشوائي ومنطقها الردئ وأخلاقياتها المتردية دون شعور بضرورة مد يد العون لانتشال أولئك المنخرطين في الفقر والضحالة والعشوائية أو لإنقاذ من حولهم من عدوي العشوائية التي تنتشر انتشارا سريعا, والإصرار علي انتهاج نهجا قوامه الملل والقدم في الخطاب الإعلامي, وأسباب أخري كثيرة جرت أهل مصر لقدر غير قليل من عدم تقبل الآخر وعدم احترامه هذا بالطبع بالإضافة إلي جهل مدقع, وغرور أعمي يدفع البعض للاعتقاد بأنه قادر علي إصدار أحكام الكفر علي الآخرين ولن نغفل كذلك أهمية عامل الفراغ الذي يتربص بنا والذي يدفع البعض إلي الانشغال بالآخرين فبدلا من التركيز علي أنفسنا, والتجويد في العمل, وتربية الأبناء, والقيام بواجباتنا الاجتماعية والدينية والوطنية, بتنا نركز علي من حولنا رغم أن غالبيتنا غير مؤهلة لإصدار الأحكام علي الآخرين! لدي أقباط مصر العديد من المشكلات, بعضها حقيقي ولا يمكن إنكاره ولا يتحمل التجاهل أكثر من ذلك والبعض الآخر يمكن إدراجه تحت بند المبالغة حينا, وتحت بند رد الفعل المتوقع حين يتم تجاهل المشكلة لوقت طويل رد فعل مارسيل في هذا اليوم مفهوم ومتوقع وله كل العذر, لكن ما هو ليس مفهوما أومتوقعا أو له أي عذر أن نكمل مسيرتنا في تجاهل المشكلة القائمة بعيدا عن الجريمة الشنعاء التي شهدتها الإسكندرية. وقبل أن نطلب من جموع المدرسين والمدرسات أن يلقوا محاضرات وكلمات في هذه الأيام السوداء علي طلابهم في المدارس حول الحادث والمواطنة وأن المسيحي أخو المسلم وأن تقبل الاخر جزء لا يتجزأ من تعاليم أي دين, علينا أن نتأكد من أن هذا المدرس مؤهل لأن يتحدث في مثل هذه القضايا بالغة الأهمية, وأنه لن يتحدث عنها وهو يغمز. لتلاميذه بالعكس, وأن المدرس لن يلمح لهم بأن ما يقوله هو مجرد تعليمات الوزارة, وان المدرسة لن تتحدث من خلف النقاب عن أهمية التسامح والوسطية وتقبل الآخر. وقبل ان يطل علينا المسئولون وهم يتخيرون احلي الكلمات واجودها المعبرة عن التسامح والحرية والانفتاح علي الآخر, عليهم ان يبدأوا في الترجمة الفعلية اولا لما يقولونه, علي الأقل حتي ليدرأوا عن أنفسهم تهمة الكلام الرسمي الذي لا يسمن او يغني من جوع, نريد افعالا وليس ردود افعال, نريد تعليما مصحوبا بالتربية, وليس بالتطرف والكراهية, نريد مجتمعا محافظا علي الأخلاق والقيم وحب الآخر واحترامه دون التدخل في شئونه, وليس محافظا من خلال العباءة والجلباب, نريد مسلما ومسيحيا يتعانقان لانهما شقيقان وليس لأنهما يقفان امام كاميرات التليفزيون نريد مصر كتلك التي كنا نعيش فيها قبل غزو الأفكار المتطرفة منزوعة المنطق, والعباءات اللامعة الخالية من المعني, وقبل التمسك بدخول الحمام بالقدم اليمني لأن هذا يقربنا من الله, وقبل الاعتقاد بان الصليب المثبت في مقدمة السيارة وملصق لا إله الا الله علي الزجاج يقربنا من الطريق الحق, وقبل الاعتماد علي قناة تليفزيونية لتكون هي الطريق إلي الله او لتكون الوسيلة لشتم وسب الأخر, نريد مصر منزوعة خانة الديانة التي هي في القلب والعقل والتصرفات والأخلاق. أريد ان أعود للحديث مع مارسيل عن أوجاع المصريين ومصادر قرفهم وأسباب انفجارهم, بدلا من الاستماع لمشكلاتها النابعة من كونها مسيحية واستماعي لها وتعاطفي معها بحكم انني مسلمة, هي صديقتي واختي لانها صديقتي واختي بغض النظر عن كونها تعلق صليبا في مقدمة السيارة او تلصق لا إله إلا الله علي الزجاج الخلفي.