تحكي اسطورة عبرانية قديمة أن البشر سكنوا جميعا في برج عظيم بمدينة بابل, تطاولوا به علي الآلهة وناطحوها وأرادوا عبر ابراجهم هذه أن يبلغوا عنان السماء حيث بيت الاله, فعاقبهم الاله وقضي بتشتيتهم, ففرقهم وشتت السنتهم وتحولوا من شعب واحد الي شعوب متصارعة شتي. هذه الحكاية القديمة يطرحها محمد عبلة في نبوءة فنية جديدة, في معرضه الأحدث لن تجد وجوه واجساد البشر حاضرة, ولكن ارواحهم التي حولت كل شيء علي امتداد البصر في المدينة الي خليط مشوه يفتقر للتناسق والجمال, حاضرة وبقوة في كل لوحة من اللوحات متفاوتة الأحجام المعلقة علي جدران قاعة الزمالك للفنون حيث يقام أحدث معارض الفنان محمد عبلة ابراج القاهرة. هذه الرؤية يؤكدها عبلة بقوله: المباني لا تعكس شكل المدينة فقط ولكنها تعكس تركيبها الاجتماعي وقيمها. وبالتالي تعكس حالة العشوائية والتخبط التي نحياها فالمبني يدل علي صاحبه. في معرض محمد عبلة تقف اشكال متنافرة فوق بعضها البعض لوحات ضخمة تصور بنايات ضخمة متراكبة تجمع طرزا مختلفة, مبان اسلامية تركب فوقها كتل عمودية اسمنتية ذات شرفات خانقة, تقف بتبجح فوق شرفات الارابيسك الرحبة. ويقول محمد عبلة: هذه المباني تعكس حالة بانيها وساكنيها, فالشخص السوي المتناسق لن يبني أو يسكن مبني شائها وقبيحا والعكس صحيح, لهذا فلا صحة لمن يري ان البشر غير موجودين في المعرض, فالبشر من سكان هذه المدينة هم بصيغة ما ابطال المعرض الرئيسيين. العشوائية التي يقاربها محمد عبلة في معرضه الآتي بعد المتاهة وأضواء المدينة هي امتداد لمشروعه الذي برز في معرضيه السابقين, والذي يقدم من خلاله رؤيته لمدينة القاهرة. ففي المتاهة ينقل محمد عبلة حالة البشر الذين توارت وجوههم في هذا المعرض تماما لكنهم يتنقلون في متاهة المدينة متخبطين في عشوائية واضحة, وفي معرضه التالي أضواء المدينة انشغل محمد عبلة بالإضاءة الصناعية التي تنير ليل القاهرة ليعكس الوجه الذي يدعي الجمال والتحضر للمدينة المزدحمة الصاخبة, وابتكر عبلة اصباغا خاصة تتيح له نقل صورة فنية لشكل القاهرة في المساء في صور غائمة يقول عنها عبلة: لم يبتعد المعرض عن فكرة العشوائية, فالحاضر فيه ليس الابهار لذاته ولكن مايحضر بقوة هو ما يخفيه هذا الابهار, هذه الألوان وصبغاتها التي تزين القاهرة في محاولة لتجميل عشوائيتها, التي تجعل اضواءها تتركز في صفوة احيائها وتنسحب عن مواضع أخري فيها, ليختفي هذا الوجه العشوائي المظلم وسط طوفان الأضواء الباهرة التي يتزين بها ليل المدينة. تطرح مشاهدة لوحات المعرض سؤالا حول سبب اختيار محمد العبلة للبرج, فالعشوائية لها مظاهر متعددة, الا انه اختار من بين كل تلك المظاهر شكلا معماريا يعد في رأي الكثيرين مظهرا دالا علي التحضر والرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي( برج دبي وابراج المدن الكبري في الولاياتالمتحدة), هذه الفكرة الشائعة التي تناقض ما يطرحه عبلة بوضوح. لكن الفنان المخلص للتصوير الزيتي لا يترك المتابع للحيرة بشأن هذا السؤال طويلا, ويجيب في دليل معرضه عنه فيقول: أنا الآن في مرسمي الجديد وسط القاهرة, من الشباك أري المدينة تمتد أمامي بشوارعها ومبانيها, وفي كل يوم أختار أحد المباني لأعيش معه وأتأمل ما اعتراه من تغيرات.. تلك الأضافات الدائمة من اللون والاشكال, تحول تلك المباني مع مرور الوقت الي كائنات حية تروي لي مئات الحكايات وتكشف مئات الأسرار.. اصبحت مأخوذا بتلك اللعبة, لكنها قادتني للتساؤل عن القدر الذي تقودنا اليه هذه المدينة. أو الي أين نأخذها نحن؟ وهل من سبيل لانقاذها؟.. هل هي ابراج القاهرة؟ أم هو برج بابل وعلينا أن نفكر جميعا في المصير الذي ينتظرنا الاف المرات مما يعيد طارح السؤال الي النبوءة العبرانية القديمة, التي تتجلي مظاهر قرب تحققها في حياتنا اليومية التي تدب فيها مظاهر الفرقة والعنف المتبادل بين اطياف المجتمع المختلف كل يوم.