بابا.. عايز الفانوس ده.. قالها الولد سامح وهو يشير إلي الفانوس الكبير المتربع علي عرش الفوانيش في فترينة المحل.. وكأنما رصاصة انطلقت في اتجاهه لم تصبه بعد, ولكنه قد لا يستطيع تفاديها في المرات القادمة ألهمته سرعة بديهته أن يسرع في خطاه جارا ابنه من كفه الصغيرة الملتصقة بكفه, وهو يتصنع الاستعجال قائلا: بكره بكره لم يعلق الولد أو يعاود الطلب ثقته في أبيه الحاج محمد لا تعادلها ثقة في أي شيء آخر, هو ابنه ونور عينيه الذي لا يعادل حبه له حبه لأي شيء في الدنيا من الصعب ومن الصعب جدا أن يخلف وعده معه أو يحرمه من تحقيق رغباته القلبية, ولهذا وحده فسوف يدخل عليه( بكره) أو علي الأكثر بعد( بكره) حاملا إليه ذلك الفانوس الكبير الذي يعزف الموسيقي ويغني, ويتلألأ بالأضواء والألوان الخلابة التي يعكسها زجاجه الشفاف الأشبه بالبنور. يأتي( بكره) وبعده.. وبعد بعده, والحلم يأبي أن يتحقق, يغضب الولد من أبيه الذي يأتي له في كل مرة بحجج واهية لعدم شرائه الفانوس الحلم.. أنا معدتش يا سامح علي المحل النهارده.. بكره إن شاء الله.. أنا لقيت المحل قافل و.. و.. ويشعر الولد بغصة فأبوه لا يفي بوعده له, ولأول مرة يشعر بأنه يكذب عليه عامدا, ويتحايل حتي لا يحقق له أملا بدلا من أن يكون هو نفسه كما اعتاد منه الوسيلة التي لا تباري لتحقيق تلك الآمال. والحل يا حاج محمد؟ هل تقول للولد علي البير وغطاه أو تسمعه عبارة أمل الخالدة: العين بصيرة والإيد قصيرة؟ أم تعده أن تشتري له الفانوس الحلم بعد أن تصرف العلاوة المتأخرة بعد عدة شهور, وبعد أن يكون شهر رمضان قد ولي بفوانيسه الرخيصة والغالية, الصغيرة والكبيرة؟ أم تغامر بشراء الفانوس الذي يصل سعره إلي ما لا يقل عن عشرين ضعف الفانوس الصغير العادي, وعندئذ قد تضطر إلي إسقاط بندا من الميزانية كما أسقطت من قبل بندا من بنود الطعام لأجل درس خصوصي لنفس الابن, كما ستضطر أن تضيف بندا جديدا لملابس العيد القادم؟ بعد أن فرغ جرب الحيل والأكاذيب لم يعد لديه سوي حيلة واحدة أخيرة تحسم الموقف مع الولد فكان أن دخل عليه بالفانوس الصغير الرخيص وهو يقول: معلش يا سامح.. الفوانيس الكبيرة خلصت م السوق فجبت لك الفانوس الصغير ده. لم يخبط الولد الأرض بقدميه ويبكي ويصرخ محتجا كما كان يفعل في السابق, ولم تلمع في عينيه دمعة من تلك التي أصبح في إمكانه أن يحبسها بعد أن بلغ العاشرة.. فقط أطرق برأسه في الأرض وأخذ الفانوس من أبيه, وهو لم يزل مطرقا ثم اتجه إلي حجرته في صمت. كانت الحكمة تقتضي من أبيه ألا يفتح معه في تلك اللحظة أي كلام, وأن يتحرك حبل الصمت ممدودا بينهما إلي أن يشاء الله أن يقطعه علي أن صمت الولد طال الأيام, كان الولد فيها ينزوي في ركن من المنزل مستغرقا في ممارسة هوايته في الرسم, لم تعد لديه رغبة أو حاجة للاحتجاج أو مجرد توجيه العتاب لأبيه لتأخره في شراء الفانوس الكبير حتي نفد من السوق, هذا علي فرض أنه لم يكذب عليه أصلا في قوله هذا ثمة شعور غامض بالأسي طفا علي وجدان الولد أخرسه, شعور أخذ ينتابه في الأيام الأخيرة كلما شهد في ليلة من الليالي شجارا بين أبيه وأمه حول مصروف البيت الذي كان صوته يبح من الصراخ الغاضب الثائر في وجهها.. الآن يستطيع أن يدرك دون حاجة لبصيرة قوية أن الفانوس الكبير كبير عليه لأنه أكبر من إمكانات أبيه ذاته. انقضي ما يقرب من الاسبوع والولد منكب في معظم الأوقات علي كراسة رسمه وأحلامه الملونة استغراقه في الرسم لم يكن هو ما يشغل بال أبيه فالولد موهوب جدا في الرسم, وبدأ يرسم قبل دخوله المدرسة, ولكن ما كان يقلقه هو استخدامه للرسم هذه المرة كغطاء لحالة الصمت والعزلة التي فرضها علي نفسه. وفي يوم دخل الأب حجرته ليستطلع أخباره ويطمئن عليه, لم يكن الولد موجودا في الحجرة.. فقط كراسة رسمه هي التي كانت موجودة ومفتوحة فوق مكتبه الصغير و.. كما هو الضوء الباهر الذي يخطف الأبصار صافحت عينا الأب فوق صفحة الكراسي مجموعة من الألوان المشرقة الأخاذة ما بين الأحمر والأصفر والأسود والأخضر, تضافرت وتشابكت في خطوط هندسية رائعة مكونة لشكل فانوس كبير مشع بالضوء النافذ من خلف زجاج يشعرك بشفافيته, وعلي الجملة بدا منظر الفانوس الكبير الجميل في الرسم رغم عفوية خطوطه وفطرتها كأنما يريد أن يأخذك إلي عالم أحلام مزدانة بأنوار الأمل.. لحظات ورأي ابنه يهرول مسرعا يدخل عليه وهو يقول في فرح غامر يكاد لا يلتقط معه أنفاسه: بابا.. بابا.. مش الأبلة قالت لنا نرسم فانوس رمضان, ولما شافت رسمي قالت لزمايلي: صفقوا كلكم لسامح عشان رسم أحسن فانوس في الفصل طفرت الدموع من عين الأب فاحتضن ابنه ثم استدار بسرعة قبل أن يري صغيره دمعتي عينيه اللتين حرص في نفس الوقت علي الا تسقطا فوق صورة الفانوس الكبير الجميل في الكراسي.