" يُحكى أن....." صمت الراوى وعاد يُنقب فى ذاكرته باحثا عن تلك الأحداث التى أصفرت أوراقها، والأيام التى تعتقت رائحتها والذكريات التى باتت حبيسة فى صوان الماضى البعيد.. لم يستطع الطفل الصغير أن ينتظر أكثر من ذلك فقد بات فضوله قنبلة موقوتة لا تحتمل الإنتظار..فصرخ قائلا: " ها... يُحكى إيه؟ أن إيه؟ ". " يُحكى أن..أنه فى الماضى البعيد زى ماهو مكتوب فى كتاب الحواديت..كان في شعب بسيط بس فى نفس الوقت عظيم بيعيش فى مكان جميل، من أجمل ما رأت العين..أرض كلها كنوز..خير فى كل شبر فيها..شواطئ بتكحل العيون بمجرد النظر ليها..صحراء ترابها مرمر وجبالها شامخه فى ضوء القمر بتحضن كل اللى يمر وينادى عليها..نيلها نسيمه عليل والمركب أمو شراع بتعدى عليه وترمى السلام بالغناوى لما الهواء ياخدها لحلمها البعيد ". " والأرض دى كان إسمها إيه؟ ".. أشعل الراوى غليونه، وعبثت أصابعه بلحيته البيضاء الطويلة التى كادت أن تقترب من الأرض، هز رأسه وارتسمت على وجهه إبتسامة رضا بعدما لمح الإهتمام الذى إرتسم على ملامح الطفل الصغير وعاد يروى: " الأرض دى إسمها "مصر"..وكان قلبها دايما هو عاصمة للسلام فى الدنيا كلها وإيديها كانت دايما مفتوحة بالحب لكل الحضارات اللى زارتها ولكل الفرسان اللى وقعوا فى حُبها..لما مرة كانت "طيبة" أيام رمسيس وحتشبسوت، قاموا بنوا فيها وشيدوا وكتبوا على مسلاتها حواديتهم ورسموا على أوراق البردى ترانيم عشقها بصوت الناى..وفى يوم ما دخل عمرو بن العاص لفتحها ووقعت عينيه عليها فاحتل كيانه حُبها، بنى على ساحل نيلها "فُسطاط" وبقت هى قلبه وبقى الفسطاط قلبها..وفى يوم لما جالها بن طولون خاف عليها وخباها فوق عند قلعة (يُشكر) ومن يومها بقت "القطائع" هى حصنها ". صمت الطفل وسرح بعيدا بخياله يتخيل تلك العروس وكيف تبدو،عاد يسأل فى لهفة: " إحكى لى عنها كمان..وعن أهلها ". " أهلها ناس طيبين..بس يا عينى عليهم، مرت بيهم حروب وقهرتهم جيوش وهزمتهم أوبئة وخدعتهم حُكام وسرقتهم لصوص.. بإختصار كده مرت عليهم أزمنة إفتكروا فيها أن مصر راحت من بين إيديهم، أو إن مصر دى مابقتش حُضنهم..لكن بقوة عزيمتهم وبإيمانهم أن بكرة دايما جاى وشايل لست الحسن معاه الأمل، راسم الضحكة أكيد على وشوش أطفال الأجيال اللى جاية، قدروا يهزموا الطُغاة ويستردوا مصر من تانى فى كل مرة كان بيخطفها جبان.. جالها الفرعون اللى كتب تاريخ وبنى حضارة وخلى العالم يضرب لها تعظيم سلام... وجالها محمد على اللى بنى وشيد ونهض ورسم مصر ست الحُسن والجمال.. وجالها الطاعون اللى أباد شعبها لما سكنها فى رجلين الفرنساويين وخيولهم.. جالها اللى خطفها وسرق حلمها زى عسكر قوات الإنجليز المُحتل.. جالها اللى حضنها وطبطب عليها وخباها فى قلبه زى إبنها ناصر البطل.. وجالها السادات الهُمام اللى شال سيفه وحارب اليهود ورجع أرضها.. وجالها........." صمت الراوى..وتلجلجت الكلمات فى حلقه فاختنقت أساريره..ولكن عاد الطفل يطارده بالسؤال: " كمل وقول لى، مين اللى جالها بعد كده؟". هنا قرر الراوى أن يستكمل الحكاية، الحكاية التى أصبح لها نهاية واحدة وألف بداية: "وبعد كل الفرسان والملوك والحكام..جالها رجل طيار، حكمها فى الأول بما يُرضى الله، حبها لأنه كان واحد من أبناء جيشها العظيم..ولكن بكل أسف إتغلب حبه للمال والجاه على القسم اللى أقسمه يوم ما أنحنى وباس أرضها..إستغلها وخطف كل أحلامها فبقت له زى الجارية هو وحاشيته، ينهشوا لحمها بالنهار وهى تبكى فى عز الليل على نفسها..وبعد ما كان بطل فى عيون الناس، نزل من فوق البرج الحصين وبقت العيون شايفاه لص من ضمن الطماعين..ولما فاض بالشعب وتقل همه وزاد حزنه وانحنى ضهره وآن قلبه..فجأة اتولد مارد من جوه القلوب، واتخلق من قلب الخوف إصرار وعزيمة بلا حدود، وإتبدل الصمت بصرخه شقت ضلام الليل..وقرر الشعب كله ينزل ويقف فى الميدان الكبير، ويعيد أمجاد أجداده ويعمل ثورة عظيمة يحقق فيها لنفسه كرامة العيش وعدالة الوجود". صفق الطفل الصغير وصرخ بأعلى صوته: " برافو عليهم..وبكده قدروا يرجعوا حقوقهم وينتصروا على الشر؟". " بكل أسف مرت سنة..سنتين..تلاتة..وإكتشفوا بعد مرور الوقت أن الثورة اللى عملوها كانت خطة دبرها مارد عظيم شرير..المارد ده فكر مين هى يا ترى أكبر وأكتر بلد فى المنطقة ليها نفوذ، وعندها جيش عظيم وحضنها قادر يلم كل الجيران اللى جنبها، وحلمها قادر يكون طوق نجاة لكل اللى حواليها؟..وطبعا كانت مصر الهدف وتقسيمها هو الذريعة..فزرع المارد أحقاد واشترى نفوس بفلوس، فلما فكر يقتل مصر و يمص دمها، بكل أسف فكر فى حد يساعده ويبقى من جوه شعبها، فاختار فئة دنيئة إختارت الدين ستار تتخفى تحته وتخاطب الناس بالحب وهى مليانة كُره، وتدور عالغلابة علشان تشتريهم بالمال..إنخدع الشعب الطيب وسلم مفاتيح المدينة لجماعة التتار المتأسلمة، اللى ربطت مصر من إيديها ورجليها بحبل طويل وجرجرتها فوق الشوك، سنة كاملة بتنجرح وتنزف وتئن من شدة الألم.. لحد ما ظهر بطل هُمام، فارس ماسك سيف وراكب حصان، قام وحط إيده من تانى فى إيد الشعب اللى إنخدع وبضربة فارس شجاع قطع الحبل الطويل وأخد مصر فى حضنه، طبطب عليها، وضمد جراحها، غزل من شعرها جدايل نور وزرع فى عينيها كُحل الحرية .. قالت له مصر، يابنى أنا مُمتنة ليك وشايلة جميلك على راسي.. إنحنى باس راسها وقالها: (يا أمى جميلك أنت اللى فوق روسنا كلنا، إحنا قلوبنا معجونة بترابك الزعفران وعزايمنا إتولدت من قلب أغانيكى اللى كنتى بتغنيها لنا وإحنا صُغار).. ثورة جديدة..وحلم جديد..مصر أبية..وشعب جميل..هى دى نهاية الحكاية". إنبهر الطفل بقصة الوطن العظيم، وعلت صوت دقات قلبه من شدة الإنبهار فوق صوت دقات الزمن، الآن فقط عرف قيمة أن يكون مصرى.. وبقيت النهاية التى كان يجب على الراوى أن يقصها على الطفل ويترك له بين سطورها حرية الإختيار: " فى وسط الفرحة والأمل اللى كانوا بيتولدوا، بدأ الإحباط يدخل فى قلوب الشباب اللى مدوا إيديهم لمصر فى محنتها، لما شافوا أبواب السجون زى ما كانت بتتفتح ويدخل فيها عصابة الأخوان، لقوها بتتفتح تانى وبيخرج منها لصوص الحلم اللى كان، فشعروا أن ثورتهم إتسرقت وحلمهم اللى سقط علشانه شهداء ودبلت على أعتابه زهور طلع كدبة كبيرة، فدب اليأس جواهم وحسوا إن اللى حصل لهم كان خدعة مريرة". " وبعدين..عملوا إيه؟ ". " وبعدين عملوا وقفة مع نفسهم، وأخدوا قرار..مصر دى حلمهم ومش حيسيبوها لأى سمسار..كل واحد منهم قادر يخلصها من جشع كل التُجار..كل واحد يلمح حرامى يمسكه ويجرجره على الحكمدار، كل واحد من ولادها بسيفه حيقضى على كل الأشرار..كل واحد شايف فساد مايغمضش عينه عنه وينام محتار..كل واحد قادر يبنى حيحط طوبة من غير ما يسأل هى الطوبة إمتى حتبقى جدار ".