أول نقود ستأتي إلي سوف أشتري بها شيئين: ربابة قناوي الصنع لي، وجلباب وعمامة وقفطان لسعيد شحاتة صاحب ديوان حلمت بيه.. ونسيت، والذي توج بفوزه بجائزة أخبار الادب، تلك الجائزة التي نعتز بها في اخراج تلك الاصوات الشابة المتفردة، حيث نبدأ الرحلة من مسقط رأسه منية المرشد من عند سيدي الدسوقي بكفر الشيخ، إلي جميع نجوع وعزب وقري وحواري وصحاري مصر، فهذا الشاب ذو الوجه الطفولي، والذي مازال متمسكا بالاحلام البريئة يكتب شعراً ومواويل وأغاني تنزف دما ابيض شديد العذوبة، دما يكشف كل المزيف والعفونة التي نعيش فيها، أنه الرواي المنصت لكل دبيب في حياة المصريين، وقد استفاد سعيد من موقعه في العمل كمدقق لغوي في هيئة قصور الثقافة، حيث يأتي إليه الكثير من الاعمال من جميع انحاء مصر، لكن هذا لا يكفي فسعيد يحتاج إلي البراح والشمس والهواء الطلق والخروج من دائرة المكاتب المغلقة القاتلة، وان لم ينتبه إلي هذا الان فسوف يتلاشي، ويعتم، فمازالت شمس مصر قادرة علي إنضاج الزهور الطبيعية الخشنة: كالنرجس والياسمين والقرنفل، بعيداً عن الزهور الجافة والبلاستيكية التي اصبحت تُشكل حياتنا، ومع ترحال سعيد في كل مكان للبحث عن قصيدته أو أغنيته أو قاموسه المأمول، فهو يلقي الاسئلة دائما، حائر لا يأخذ الاشياء بعلاتها، بل يضع انفه في كل شيء، فهو يطرح من خلال عشرين قصيدة الأسئلة الساذجة الصعبة، ولا يكف عن التلون في دور الراوي أو الخطيب أو الفتوة أو الحبيب، هذا الشاعر صاحب الصوت الخاص الخشن الناعم، يقدم مقترحاً شعرياً مغايراً للسائد والمألوف، صاحب مغامرة مازالت في البداية، متأثرا بتربيته في قريته بمحافظة كفر الشيخ، لقد اجتاز في ديوانه مناطق مختلفة ومخالفة لما نقرأه ونسمعه، لكنها شديدة الالتصاق بالواقع، لقد هضم واجتر سعيد الكثير من ابن عروس وبيرم وعبد الحميد الديب وسيد حجاب عبدالرحيم منصور وغيرهم، انه التشبع من السابقين، وسعيد بسيط بساطة الأطفال ومشاغبتهم وعميق كرهبان الاديرة، مدرك وله قصيدته وصوته المميز، والذي تستطيع ان تخرجه من وسط اوحال ما نسمع ونقرأ، انه الخيال الجامح والثراء الفريد، لم يقع سعيد في البساطة والمباشرة والإنشائية، انه الساحر والرفاعي والحاوي والشهيد والطفل الذي يلعب الحجلة في الحارة، يرتدي جلبابا متسخا وأمه تنادي عليه طوال النهار أن يكف عن مشاغبة ومضايقة خلق الله، وسعيد مستمتع بهذه المشاغبة، ومدرك انها سوف تأتي له بالحل أو السعادة حتي ولو تزيف الواقع وتلون الناس وتغير الزمان. يهدي سعيد شحاتة ديوانه لروح عم حامد والده التي مازالت ترفرف وتدور حوله وتشد روحه، ثم يقف ويعلن منذ بداية أبواب الديوان انه ليس سفير الصمت في بلاد الخرس، ثم ينحني ويقبل يد وأقدام الأم: يا كل كلمة حب جوايا، أنا نفسي أقوم وارفع لها الراية، وأرسمها فيا نهار ومعني ودار، واكتبها كلمة ف أول الآية. وكالحاوي يقف سعيد كي يجمع ويلملم خيوط الشمس الذهبية: يارب توضع لي فمعالم سكتي قنديل، وابوس الصبح لمّا ينام علي حجرك، ولما أتعب.. باشد حبالي من حالي، وأحس إن أنتِ أحلامي، وأحس إن أنتِ ترحالي، الصوت المرير الذي يدندن به ويجمع به خيوط الشمس المستحية، كي يصنع منها اسورة وعقدا وحلقا لقلب الوطن الكبير، الوطن الذي يتشكل ما بين الام والزوجة والحبيبة والوطن الفعلي: وإيه الحب دا يعني، باكلم نفسي في الضلمة، وخايف نفسي تسمعني، لتمنعني إني أحب أكتر، البراءة والخجل، الجنون والبساطة، هذا هو الموال والاهازيج عندما تصبح شواطئ الامان للشاعر المعزول في حب هذا الوطن، ففي قصيدته فداكم، يسخر ويتحدي كل الحكام: حياتنا فداكم، ودايرين نبارك وندعي لخطاكم، لو يوم عطستم، بنعطس معاكم، ولكنّكم لو دخلتم جهنم، أكيد مش هنغلط وندخل وراكم!، ان الفاهم أن كل الحكام الماضيين والحاليين والقادمين، سوف نتعامل معهم بنفس الاسلوب: الخضوع التام، والمباركة لهم في كل افعالهم، لكنه اذا كانت الجنة مفتوحة للفقراء وسعيد منهم، فإن جهنم مفتوحة للحكام، هؤلاء الانتيكات الذين يجلسون علي العروش، عروش لا تستطيع ان تقود الجيوش، هذه هي الانتيكات التي يراها الشاعر حيث تصبح الشطرة لديه دبابة والكلمة رصاصة ودانة ورمحا وصاروخا يقول: وأعجن قصايدي بارود وطوب ورصاص، هو الكلام ممكن ينبت سنبلة؟ والا الكلام ممكن يفجر قنبلة؟ يا أبو قلب أسرع م الحصان جوّا السكك، اضرب صاروخك، واجري مين راح يمسكك؟ ثم يعلنها صريحة وقوية: كل الرايات متفبركة، كل البلاد متأمركة وشدّة الحزام، طب مين هيدفع دىّة الدم الحرام؟ إنت اللي قشيت الوجع م المحلبة، هو الحصار ممكن يولد غير حصار، والا الحمير ممكن يسوقهم غير حمار؟ ما يهمناش الحلم عايش والا مات، لكن المهم نقول آمين، ويحوّلونا لأنتيكات، ها هو يصرخ ويلملم صوت الشارع والحارة ويصرخ في اصحاب القصور، القادة والحكام، يعلنها أن العصر اصبح له والزمن مهما تلون وتعولم، فلنا عروبتنا ولنا مصيرنا المكتوب علي جباهنا، لكن بعد الهرولة بين قصائد الديون يستريح بنا متذكرا حبيبته التي ضاعت منه، الحب المستحيل، يتخلص من ذنبه، حبه، فيقول صارخاً وهو يعلم ان هذا الحب مستحيل، وليس زمنه، لكنه الاعتراف الفتوة والذي يحدث يحدث: باحبك بقوة، باحبك وعامل في حبك فتوة، ويصبح سعيد عكازة الجد والاب، ويري ويتنبأ بالثورة، جالس مستمتع بالقهوة فيقول: علي قهوة قلبك، وإنت مربّع إيديك، وممدد روحك فوق منّك، وبتهتف لأّه بعلو الصوت، انه الانتظار لفعل شيء غير ان يظل يمقق عينيه في بنات الحي، فهو ليس جالسا وخلاص علي ناصية القهوة، انه في انتظار الانقضاض والفرصة، يصرخ سعيد ويزيح القهوة وينهض ويعمل ثورة فيقول: الكون مجنون وإنت مخاوي، قلبك براوي وسحراوي، ومحتاج تصليح، محتاج ثورة تصحيح تانية، محتاج يطلع مليون خيبة، عشان العالم يعمل لك، وسط المهابيل شنّة وهيبة، ويحطك وسط الناس الهاي، ان الثورة التي قامت في ميدان التحرير والتي جعلت العالم كله ينحني احتراما للانسان المصري البسيط والذي جلس علي المقهي بأمر قوي اخري، وضاعت احلامه وهو جالس ينظر حوله واحلامه تضيع وحبه يموت امامه، يستمر سعيد منبها: تعرف لو كنت طاطيت راسك، مش ممكن كنت هتبقي إنت، قلبك مش حتة رمانة، قلبك دانة، قلبك فدان مليان شواكيش هكذا تكمل القصيدة معناها وقوتها واستشراف وتوقع المستقبل وسعيد مصمم علي ثورته وان يكون رصاصة دائما جاهزة للانطلاق: خليكي دايما براحتك أبىَّة، وخليني دايماً معمّر سلاحي، ومستني أطخ العيون الغبىَّة، ان الخوف علي انجازه وثورته الذي حدث في ميدان التحرير، ويعود سعيد بعد ثورته والاطمئنان علي انها ركبت قطار الزمن الناجح، يعود ويجلس علي المصطبة ويغزل قصيدة قديمة حديثة كياسين وبهية وحسن ونعيمة يغزل موال المجنون والجنية: خلاص امشي، وسيبي الحزن بيعيط علي دراعي، في لحظة ما عرفت إنك، حياتي ودنيتي وناسي، وناري وسكّري وشييي، يا حاطة دماغي فوق صدرك، وبتضمّيني بالراحة، أنا حضنك وأنا الكرباج، وانا اللي لبست أخشن صوف، وصرت فحبّك الحلاج، صحيح الدنيا فراقة، فلو مُتنا في حضن البعد، مش هيأس، أكيد لمّا القيامة تقوم، هنجري لغاية ما نتلاقي، لكن الشاعر يعود له قميص الخوف مرة اخري، لعدم تحرك أشياء في حياتنا ويقصد هنا ارض فلسطين، ستين سنة قصيدة تنزل دما احمر يجعل جميع وجوهنا تحمل الخجل والعار، واقصد وجوه الحكام، فدقات قلوب الشعوب لم يستمع لها الحكام حتي الان، واخاف عندما يصبح سعيد في السنين يكتب قصيدة يكمل بها حزنه لتلك القضية وتصبح مائة سنة، هذا الطاعون الذي زرع في جسد الوطن العربي الكبير، وان الوطن اصبح شعارا، انه انحطاط الازمنة، انه الخروج من الواقع والخروج من الحياة، وقلبه يرفض الصمت والسكات: إنت أرنب واللا فّخ؟ عامل إيه والناس بتصرخ، والقصايد نازله رخ؟ عامل إيه والحلم عاجز، والجمال بدأت تنخّ؟ ولانه عاشق للتراث الفرعوني والعربي، فهو مازال يلف مع ايزيس بحثاً عن جسد اوزوريس، يحاول ان يلملم هذا الجسد / الوطن / الحبيبية: فيصرخ: اوزوريس غريق النيل يا أهل المنطقة، فوقوا بقي، وزعقي فوسط الكلام، النيل هيرجع يبتسم، أوزوريس راجع لك يا بلد: تتصوري، ووسط الزعيق والصوت العالي يصرخ في وجه الاستاذ الابنودي، ولان سعيد شحاتة فارس من ظهر فارس، فقد قرر النزول إلي حلبة التحطيب، وأرض الموال كي ينازل الزعيم، الابنودي وهو هنا يحطم ويلقي ابياته كتلميذ يعلم جيداً قواعد اللعبة، وهي مشاغبة جميلة سوف تضيف لتاريخه: لازم الابنودي يعرف، إن مصر فكل يوم بتجيب غلابة، وإن ممنوع من الكتابة، وإن خبازة العجين، عمّالة تخبز للديابة. هذا الشاعر الذي بطعم المش لا يتواري خلف الاشكال المستهلكة للموال والمربعات والاغنية بل واضح وصريح، يتلون ويتشكل كي يخرج قصيدته المتفردة، رصاصته، فتصيب: لذلك سوف تظل مندهشاً عندما تسمع ان شعره حادق علي النفوخ، ومرذبة علي الدماغ، ومقص يقطع الجوخ، سعيد السواح في بلاد الله من غير لازمه، وعينيه عيون عراّف، طواف، شواف، عامل أزمه بديوانه شديد العذوبة والخصوصية: حلمت بيه.. ونسيت.