لاشك أنه من ضروب الوهم, الظن بأن إسبانيا قد منحت الصحراء الغربية استقلالها, فلقد خرجت منها بعد ان زرعتها ألغاما وخلافات, تغذيها صراعات الأمس ومصالح اليوم ومطامح المستقبل .انها حرب مبتذلة الأشكال والأغراض, قسمها الأكبر سري وكل شيء فيها مباح... وتسمح لنا هذه النظرة, بل تفرض علينا, أن نضع الأمور في نصابها الصحيح, خلال محاولة رسم صورة, ساعد الزمن علي تحديد معالمها. **** ولاتعنينا تفاصيل الصراع الموغل في القدم, الذي دار بين الشرق والغرب, مثل صراع الفرس مع اليونان الرومان, وصراع قرطاجة والرومان, ثم صراع الفرس مع البيزنطيين, ويكفينا القول بإن العرب المسلمين قد خلفوا الامبراطورية الفارسية, وورثوا هذا العداء, ودخلوا في ذلك الصراع, فمنذ أن دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس فاتحا عام638 م, اتقدت نيران لم تنطفيء بين المسلمين والفرنجة, فكانت حربا عنيفة بينهم, تمكن المسلمون خلالها من ازالة سلطانهم عن الشام ومصر وشمال افريقيا. وراح طارق بن زياد فاتحا عبر بحر الزقاق من سبتة فاشتبك المسلمون مع الأسبان في حروب طويلة طاحنة فأزالوهم, وأقاموا في أرضهم دولة اسلامية ازدهرت قرونا عديدة, وواصل المسلمون زحفهم علي الجناح الغربي وتوغلوا داخل أوروبا ولامسوا جنوبفرنسا واجزاء في ايطاليا, ودارت عجلة الزمن لحسابهم, حتي تمكن شارل مارتل من ايقاف تقدمهم في معركة بلاط الشهداء عام722 م, ومع ذلك لم ينقطع تقدم المسلمين عن الجبهة الغربية الفرنسية- الايطالية, رغم مقاومة الفرنجة ضدهم. ولسنا نريد ان نتابع مراحل هذا الصراع بالتفصيل, ولذلك نكتفي بالأشارة الي أنه عاد ليتأجج في فترة الحروب الصليبية, فبعد عودة حملاتها من بيت المقدس فاشلة, وبعد الزحف العثماني في القرن الرابع عشر داخل اوروبا, كان رد فعل البابا أن اطلق نداءاته للهجوم علي احدي النقاط الأضعف والأبعد, وكانت الموجة الأولي لغزو المغرب, ومن الجدير بالتنويه اليه, ان نشاط البرتغال في هذا المجال- وقد امتلكها المسلمون لخمسة قرون- كان سابقا لنشاط الاسبان, فقد نزل الملك هنري بجنوده في سبتة عام1415 م, وترك فيها حماية من2500 محارب, وكانت الهجمة الثانية عام1453 م. حين تزعم البابا حملة دينية وهجموا علي سبتة وطنجة والقصر الصغير, وتم ذلك بتأييد من الرأي العام الأوروبي, وسمي ب الاسترداد بدلا من الغزو, وكان ذلك نصرا للحركة الصليبية, وصفحة جديدة في الصراع بين الشرق والغرب. أما مليلية فقد قرر الاسبان غزوها عام1496 م, وعندما تغلب الاسبان علي البرتغاليين, ضموا سبتة الي ملكهم, وقد اقتصر دورها علي مجرد نقطة مراقبة, بعد أن كانت أهم موانيء المغرب, ومن ثم عدها بعض الاسبان غير مجدية نظرا لأعبائها المالية, ولتعدد مرات حصارها, سواء بواسطة زعماء محليين مثل احمد جيلان عام1655 م, أم بواسطة السلاطين الذين استقر حكمهم في فاس, مثل مولاي اسماعيل أشهر سلاطين الدولة العلوية, والذي قام خلال حكمه بثلاث محاولات لاسترداد سبتة في الأعوام(1674 و1680 و1694م) وبعد الموجة الصليبية تأتي الموجة الاستعمارية, فعندما ازالت القبائل المغربية علامات الحدود عام1859 م, اتخذها الاسبان ذريعة لشن حملة جديدة عام1860 م, وزحفت الجيوش الاسبانية من سبتة لتبتلع مدينة( نطوان), وفي كنف هذه الظروف, أحكمت اسبانيا سيطرتها, وانطلقت من كل من سبتة ومليلية الي مناطق جديدة, إلا أن ذلك لم يفت في أعضاد مغاربة سبتة ومليلية, فكانوا ينتهزون أي فرصة ينشغل فيها الاسبان, فينتفضون متطلعين لارجاع سبتة ومليلية الي الوطن الأم( المغرب), ونستطيع أن نستمر طويلا في ضرب الأمثلة الدالة علي تلك الانتفاضات, وقد كفانا مؤونة ذلك ما وصف به البعض تداعيات احتلال اسبانيا, وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا اقدام اسبانيا علي الانسحاب من منطقة( الريف) وفي وقت لاحق من منطقة( طرفاية) وفي غضون انسحابها من الصحراء الغربية, طلبت ثمنا له, فحواه عدم المطالبة بعقد الجيوب الممتدة علي طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. وعلي ضوء هذه الظروف, يجوز لنا بالتأكيد, أن نعتنق الرأي المعقول القائل, بأن التوسع الاسباني في سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وباقي الثغور المحتلة. لم يكن ذات صبغة استراتيجية فحسب, بل كان للثأر من التاريخ دوره الأهم في هذا الموضوع, فرغم مرور القرون وتعاقب الأجيال, لم تنس اسبانيا أن المغاربة لم يفتحوا اسبانيا فحسب, بل ادخلوا فيها مدنية عظيمة اخجلت بقية اوروبا. واعتقد ان هذا الرأي صحيح في مجمله, ذلك أنه يتفق مع استراتيجية اسبانيا في معالجتها لقضية سبته ومليلية, وسط دائرة من التنخبط وحجيم من الغموض, يمكننا لضيق المجال ان نتجاوز عن تفاصيلها, ونكتفي بالاشارة الي ما جرت أحداثه عقب أحداث العيون, والحق أننا نستطيع ان نستخلص عددا من الأفكار الرئيسية, من اخطرها استغلال هذه القضية ورقة رابحة في الانتخابات البرلمانية الاسبانية, ولفت الانظار عن ما يجري في سبتة ومليلية من انتفاضات, والحزب الشعبي الاسباني نموذجا.