فى مطلع ستينيات القرن الماضى استأجرت شقة فى منطقة الترعة البولاقية بالقرب من رمسيس. الشقة من غرفتين وصالة ومطبخ وحمام. المنطقة شعبية بطبيعتها وكذلك كانت مساكنها. كان إيجار الشقة ومساحتها نحو 50 مترا هو خمسة جنيهات شهريا وهو إيجار يقرب من إيجار شقق أفضل وأوسع فى مناطق أرقى من القاهرة حينذاك لكنها أبعد بالنسبة لمكان عملي. كانت بداية مرتب خريج الجامعة 15 جنيها والتعليم المتوسط 12 جنيها. مرتبى وقتها كان 20 جنيها ولم يكن الإيجار مرهقا لكنه أيضا لم يكن رخيصا جدا. بين عامى 1961 و1963 تم تخفيض الإيجار بنحو 35% وأصبحت أدفع ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. لم تكن الزيادة التى هبطت على دخلى متمثلة فى 150 قرشا شهريا بالأمر الذى يستهان به وكانت موضع ترحيب شديد منى وقتها. كان سعر الصحيفة اليومية قرشا واحدا ووجبة الإفطار فى مطعم أسفل عمارة رمسيس بين قرش ونصف القرش وقرشين ونصف القرش طبقا لرغبتى فى تناول الفول بالزيت أو بالسمن. كان أحد المحال بشارع 26 يوليو يبيع الحذاء بمبلغ 99 قرشا وكان ثمن أقة ثم كيلو اللحم بين 27 و35 قرشا فى حين كان ربع الكباب بالعيش والطحينة 20 قرشا. لم يشغلنى وقتها الوجه الآخر للعملة وهو أن الزيادة التى لم أسع إليها والناجمة عن خفض الإيجار كانت فى نفس الوقت خصما من دخل مالك العقار الذى كان هو أيضا أنسانا يسعى وراء الستر من خلال إيراد عقاره. معظم ملاك العقارات كانوا من الطبقات محدودة الدخل فى المناطق الشعبية أو من الطبقة الوسطى فى غيرها من الأماكن. ملاك العقارات وقع عليهم عقاب دون جريمة ارتكبوها سوى أنهم سعوا الى استثمار مدخراتهم القليلة فيما تصوروا أن يكون مصدرا آمنا للدخل. حتى ذلك الوقت كانت لافتات "شقق للإيجار" مشهدا مألوفا فى القاهرة وغيرها ولم تكن هناك مشكلة فى الانتقال من سكن إلى آخر وكان مالك العقار هو الذى يدفع للسمسار لكى يجلب له سكانا. البعض كان يطلق البخور فى الشقة لفك النحس إذا ظلت دون ساكن لأكثر من شهر. بعد التخفيض الذى تم عام 1963 اختفت لافتات شقق للإيجار وبدأت تختمر ثم تتصاعد ثم تتفاقم أزمة الإسكان خصوصا بعد أن أصبح تحديد الإيجار منوطا بلجان حكومية وبعد أن أصبح تقاضى خلو رجل من قبل الملاك جريمة. ليس ثمة شك فى أنه كانت هناك مبررات اجتماعية وراء قوانين تخفيض الإيجارات فيما بين أعوام 1952 و1963 لكن ربما لم تكن آلية أو فلسفة توزيع الأعباء بشكل أكثر عدالة حاضرة (وهو نفس مشكل الدعم). لقد جعلت قوانين الإسكان من ملاك العقارات المبنية منذ ما قبل عام 1944 وحتى عام 1996 ضحايا لحساب شرائح أخرى من المجتمع ربما كانوا أحسن منهم حالا ودخلا. الظلم الذى أوقعته هذه القوانين على ملاك العقارات أنها "أبدت" عقود الإيجار وورثتها لأبناء المستأجرين و"أبدت" القيمة الإيجارية لكل العقارات القائمة منذ 1944 وحتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. الاستثناء هو ما أقيم عام 1996 وما بعده. فى عام 1969 بلغ مرتبى 31 جنيها وانتقلت إلى مسكن آخر بوسط البلد لكن إيجار شقة الترعة البولاقية التى تركتها ظل كما هو دون تغيير. فى زيارة قريبة للمنطقة وجدت المنزل لا يزال قائما ووجدت أن الإيجار فى عام 2014 هو ذاته الذى كنت أدفعه منذ 45 عاما عندما تركت الشقة. لا شيء تغير فى هذا الأمر وحده لكن كل شيء تغير فيما عداه. كيلو اللحم ارتفع من 35 قرشا إلى 80 جنيها وثمن الحذاء تجاوز 200 جنيه منذ وقت طويل وربع كيلو الكباب من 20 قرشا إلى 35 جنيها وسندوتش الفول (وليس وجبة الإفطار كاملة) من قرش إلى أكثر من جنيه. أما الصحيفة اليومية فقد ارتفع سعرها من قرش الى 150 قرشا والعدد الأسبوعى لبعضها إلى 200 قرش. يعنى الإيجار الشهرى لشقة الترعة البولاقية يكفى بالتمام والكمال لشراء صحيفة يومية لمدة ثلاثة أيام لكنه لا يكفى لشراء كوب من الشاى من أى "نصبة" وليس مقهى كما أنه لا يكفى لمسح الحذاء مرة واحدة. هما دول مش ناس من حقها تعيش؟