لاتزال المبادرات الوطنية في إذكاء روح المشاركة الجماعية تتوالي سواء في طرح الأفكار الخلاقة الكفيلة بدفع عجلة التقدم و التغيير قدما نحو الأفضل أو الدعوة للإسهام المادي النقدي و العيني, و كلما طرحت فكرة أو نجحت أخري نرجع بالذاكرة الوطنية إلي الدور الإيجابي الذي قامت به كوكب الشرق أم كلثوم في دعم المجهود الحربي بعد هزيمة.1967 و تتوالي الذكريات التي تؤكد الدور الفاعل للفن و الفنان الصادق الذي كانت فيه( ثومة) نموذجا متفردا يوم جابت الأقطار في الخارج و المحافظات في الداخل تشدو بنعمة الله عليها أنشودة رد الجميل للوطن.. و ما أروعه من إنشاد. و لكون الصدق كالذهب لا ينطفئ بريقه فقد طالعتنا دار الأوبرا المصرية بمبادرة تتواكب مع اكتتاب القناة و هي تخصيص أعلي إيراد لحفلاتها لمصلحة صندوق تحيا مصر, في مبادرة لا تخل من عبقرية لما تتميز به من مفردات أحسبها جديرة بالرصد. أولها أن الفكرة قد أكدت علي الدور الوطني للأوبرا المصرية منذ كانت تضئ سماء القاهرة في زمن الإظلام الغابر, لتشع بإشعاعاتها علي الأقاليم في تحد للنكوص الحضاري الذي تبناه من استوزروا للثقافة فكانوا وزرها الأعظم. فجميعنا يعلم كيف استهدفت الثقافة المصرية بكل مكوناتها الإبداعية و تراثها الشاخص عبر الزمان لتصبح و كأنها رجس من عمل الشيطان, عبرت عنه العديد من الفضائيات الموجهة تارة بإسم الدين و أخري باسم الأخلاق. و لم يكن هناك من واق يتصدي لكل تلك الأساليب بشقيها الرسمي و الشخصي سوي دار الأوبرا التي لاقت رئيستها الدكتورة إيناس عبد الدايم جزاء سنمار لولا30 يونيو, لتسكتمل عقد الرسالة الوطنية بهذه المبادرة الجديدة. الأمر الثاني يتمثل في إتاحة من نوع خاص للمشاركة الوطنية لشريحة معينة من أبناء مصر و محبيها ممثلة في إيراد تذاكر الحفل. إذ علي خلاف المتبع من التبرع أو الاستثمار الوطني بعائده المادي يأتي هذا النوع من الطرح ليجعل العائد فوريا, متمثلا فيما يحصل عليه المتلقي من فن راق و ذكريات وجدانية تحيي من جديد فكرة بطولة الأغنية بدلا من مؤديها في رسالة غير مباشرة لإنكار الذات التي نأمل في تمثلها كقيمة موجبة لمصلحة الوطن. و هكذا باتت الكلمة هي سيدة المشهد المتوجة سواء كان الطرح بالعامية أم بالفصحي, لا سيما تلك الأخيرة التي توافقت مع كل الأطياف المجتمعية لترفع معها أو بالأحري يرتفع بها الذوق العام في زمن ولي و نأمل أن يعود. الأمر الثالث و يخص طبيعة الاختيار بافتتاح المبادرة بكلثوميات غابت عنا و لم تغب فينا لنستدعي جميعا دور أم كلثوم الوطني المتزامن مع أحداث الوطن و علي رأسها المجهود الحربي, في إشارة من طرف خفي باستمرارية( المشاركة الكلثومية) في هذا الحدث المعاصر حيث الأفكار باقية و الأشخاص إلي زوال. و لعل هذا الأمر قد يسترجع من دهاليز الذاكرة نماذج تستعصي علي الحصر لفنانين ساروا علي ذات الدرب, ليتلاشي معهم ذكر تلك النماذج التي كان الهروب خارج الوطن و عند الملمات سلوكها المعتاد حتي و لو كان الأمر زلزالا هنا أو سيولا هناك. و هكذا تتعمق في النفوس القيمة الحقيقية للفنون و بيوتها و شخوصها, التي بدونها يتعرض الوجدان الوطني لحالة من التصحر تجعل منه تربة خصبة للاستهداف بل و الاستعداء علي الثوابت الفكرية و الأصول القيمية التي درج عليها. ليتسلل رويدا رويدا إلي واقعنا نماذج شائهة و محاولات مبتورة يطلق عليها فنا و إبداعا قد لا نملك حيالها سوي التسليم, لو تم لا سمح الله- النيل من رموز الإبداع الإنساني الخلاقة و علي رأسها أم كلثوم أو المساس بمراكز الرقي الفني الحقيقية و في مقدمتها دار الأوبرا. أما رابع الأمور و آخرها فيتمثل في تذكرة الدخول ذاتها; فلئن كانت الصكوك و الشهادات البنكية تمثل دليل ملكية و ضمانا لعائد فإن التذكرة الخاصة بالحفل و تخصيص إيراده لمصلحة مصر إنما تمثل شهادة بالمشاركة من نوع خاص. و يصبح الاحتفاظ بها تذكارا دائما للمشاركة الوطنية لا تذكرة بعائدها... و في كل خير علي الإجمال. و إن كان هذا الأمر قد يجعلها من قبيل الوثيقة التاريخية التي يمكن أن تؤرخ بها حالات التجمع الوطني حيال استشراف لمستقبل بمشروع قومي يردد فيه الجميع تحيا مصر. فشكرا للدكتورة إيناس عبد الدايم و معاونيها أن جعلوا لإرتياد الأوبرا مذاقا وطنيا و اشتراكا حصريا لا مراء فيه و لاجدال. ( إشراقات السعدي44) أكتوبر هذا العام ليس مجرد ذكري وطنية نسترجعها أو مناسبة قومية نستدعيها, إنه احتفاء بإعادة صياغة هذا الشعب و إمكانية استنهاض كوامنه و التأكيد علي حسن توظيف قدراته.. أو في المجمل هو عيد للمصرية في ثوبها الجديد..