رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات يكشف الاستعدادات النهائية لانتخابات الشيوخ    إعلام عبري: توتر العلاقة بين سموتريتش ونتنياهو    عبد العاطي يدعو إلى دعم جهود تنفيذ الخطة العربية الإسلامية لإعادة إعمار غزة    ألمانيا تعلن إقامة جسر جوي مع الأردن لإيصال المساعدات إلى غزة    بيراميدز يختتم معسكره في تركيا بالفوز على بطل إيران (صور)    ديفيد ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    لم نشعر بالغربة.. السودانيون يشكرون مصر على كرم الضيافة    رئيس الوزراء يستعرض خطوات إنشاء وحدة مركزية لحصر ومتابعة وتنظيم الشركات المملوكة للدولة    مدبولي يستعرض الخطوات التنفيذية لإنشاء وحدة مركزية لحصر الشركات المملوكة للدولة    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    أسيوط تبدأ تطوير 330 منزلًا بالمناطق الأكثر احتياجًا (فيديو وصور)    صور.. محافظ القاهرة يكرم 30 من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    زياد الرحباني عانى من مرض خطير قبل وفاته.. ومفيدة شيحة تنعاه بكلمات مؤثرة    بسمة بوسيل عن ألبوم عمرو دياب "ابتدينا": "بصراحة ماسمعتوش"    "النهار" ترحب بقرار الأعلى للإعلام بحفظ شكوى نقابة الموسيقيين    متحدث "الموسيقيين" يعلن موعد انتخابات التجديد النصفي: الجمعية العمومية مصدر الشرعية    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    أزهري: الابتلاء أول علامات محبة الله لعبده    أمينة الفتوى: ملامسة العورة عند التعامل مع الأطفال أو أثناء غسل الميت تنقض الوضوء (فيديو)    هيئة الرعاية الصحية تعلن نجاح وحدة السكتة الدماغية بمجمع الإسماعيلية الطبي    وزارة الصحة: حصول مصر على التصنيف الذهبي للقضاء على فيروس سي نجاح ل100 مليون صحة    ضعف عضلة القلب- 5 أعراض لا ترتبط بألم الصدر    شهادة تقدير ودرع المحافظة.. أسوان تكرم الخامسة على الجمهورية في الثانوية الأزهرية    هيئة فلسطينية: كلمة الرئيس السيسي واضحة ومصر دورها محورى منذ بدء الحرب    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    ترامب: خاب أملي في بوتين    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    «أكسيوس»: مسؤولان إسرائيليان يصلان واشنطن لبحث ملفي غزة وإيران    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    مجلس إدارة غرفة السياحة يعيّن رؤساء الفروع السياحية بالمحافظات ويوجههم بدعم النمو    ختام فعاليات قافلة جامعة المنصورة الشاملة "جسور الخير (22)" اليوم بشمال سيناء    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    مصرع شخص صدمته سيارة تقودها طفلة في إمبابة    طريقة عمل التورتة بمكونات بسيطة في البيت    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    رئيس تعليم الشيوخ: محاولات تشويه دور مصر باسم غزة يائسة والدليل "زاد العزة"    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    قرارات هامة من الأعلى للإعلام ل 3 مواقع إخبارية بشأن مخالفة الضوابط    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    البربون ب320 جنيهًا والقاروص ب450.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية اليوم في مطروح    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    الحوثيون يهددون باستهداف السفن المرتبطة بموانئ إسرائيلية    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    هل ستفشل صفقة بيع كوكا لاعب الأهلي لنادي قاسم باشا التركي بسبب 400 ألف دولار ؟ اعرف التفاصيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    الداخلية تكشف ملابسات وفاة متهم محبوس بقرار نيابة على ذمة قضية مخدرات ببلقاس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرانسوا باسيلى يكتب فى ذكرى رحيلها ال39: أم كلثوم.. سيدة الغناء الدينى
نشر في التحرير يوم 03 - 02 - 2014

استطاعت منذ صغرها بذكائها وحدْسها القروى الفطرى اكتشاف أن الفن الجميل لا يتعارض مع التدين الحقيقى.. بل هو امتداد طبيعى له
كانت تقوم بعمل ثلاثين أو أربعين بروفة كاملة للأغنية الجديدة.. وتقوم بتعديل الكلمات حتى لو أدى هذا إلى امتناع بعض المؤلفين
بدأت أم كلثوم رحلة إبداعها الفنى وهى طفلة فى قريتها «طماى» تنشد الأناشيد الدينية مع والدها وشقيقها فى مطلع العشرينيات من القرن العشرين
رحلت أم كلثوم فى الوقت المناسب قبل أن ترى المجتمع المصرى حولها يعود إلى عصور الظلمات ثقافيًّا وفنيًّا وإبداعيًّا
ديجول كتب لها: «لقد لمستِ بغنائك شِغافَ قلبى وقلوب الملايين من الفرنسيين»
عندما وقفت أم كلثوم عام 1951 تشدو بكلمات شاعر النيل حافظ إبراهيم «وقف الخلق ينظرون جميعًا/ كيف أبنى قواعد المجد وحدى» بلسان مصر التى تتحدث عن نفسها، كان يمكن اعتبار أن هذه السيدة المصرية المدهشة تتحدث هى الأخرى عن نفسها بهذه القصيدة الفريدة، فقد استطاعت أم كلثوم أن تجذب إليها الملايين فى المشرق العربى ومغربه ليقفوا ينظرون كيف بنت هذه الفنانة قواعد مجدها، فى تزامن مرهف مع فترة كانت فيها الشعوب العربية كلها فى مرحالتلة من أزهى مراحل بنائها لمجدها الوطنى، فى فترات التحرر من الاستعمارين الإنجليزى والفرنسى والتصاعد الهادر للحس الوطنى والمد القومى فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ثم تصل أم كلثوم إلى ذروة مجدها الفنى فى فترة الستينيات المتأججة إبداعًا فنيًّا وإنجازًا وطنيًّا معًا، فى فترة مذهلة من تاريخ مصر والمنطقة، كان فيها مجد الألحان، والإبداع عامة، ينبع من مجد الأوطان ويغذيه فى نفس الوقت، فقد تلازم المجدان وتكاتفا ليصنعا معًا ملحمة المد الوطنى التقدمى ليس فى مصر فقط، ولكن فى البلاد العربية كلها، وكانت أم كلثوم هى أحد أهم التجسيدات الشخصية والتجليات الإبداعية للعبقرية المصرية فى تلك الفترة، فقد أترعت الوجدان الإنسانى وأشبعت الحس الوطنى بأرقى وأشجى المعانى الإنسانية والإبداعات الموسيقية التى حلقت بالروح الجمعية للمصريين والعرب إلى أعلى قممها، ثم كان من الملائم أن تكتمل رحلة أم كلثوم مع اكتمال انكسارات ثم إنجازات الفترة الشاهقة فترحل فى 3 فبراير عام 1975 بعد عام وقليل من آخر إنجاز مصرى وعربى فى ذلك القرن وهو انتصار العبور الهائل فى 1973.
احتفالنا بذكرى رحيل أم كلثوم يضىء لحظتنا المصيرية التى تعيشها مصر، لأن ما تمثله أم كلثوم فى الوجدان المصرى له علاقة وثيقة بالموجة الثانية من الثورة المصرية، وهى ثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان فى مصر، فأم كلثوم فى مجمل أعمالها تمثل عناق ثلاث طبائع أو منابع أساسية فى الوجدان المصرى هى الإبداع والوطنية والتدين، وهو مثلث مقدس لدى المصريين منذ فجر التاريخ، مثلث لم يفهمه أو يقدره أو يحترمه الإخوان الذين أرادوا كسر ضلعين من هذا المثلث، وهما ضلع الوطنية وضلع الإبداع، لكى لا يبقى سوى ضلع التدين الإخوانى المتشدد العنصرى، وليس التدين المصرى الوسطى المنفتح الجميل، فكان أن هب المصريون مطيحين بالإخوان دفاعًا عن طبيعتهم الأصيلة وهويتهم الأصلية.
ولم يكن غريبًا أن يكون تيار الغلو الدينى معاديًا للفنون ولأم كلثوم وما تمثله فى مصر، وقد سقط الشارع المصرى فريسة سهلة لهذا التيار منذ أن قام السادات فى السبعينيات بإطلاق قوى التشدد الدينى وشجعها على مطاردة الناصريين واليساريين والليبراليين ففعلوا بضراوة حتى خلت لهم الساحة السياسية والاجتماعية والفكرية معًا واستسلم لهم المجتمع المصرى بأكمله يشكلونه كما يشاء لهم فكرهم الضيق الكاره للحياة وتنوعاتها، وكان الهجوم على الفن والفنانين والغناء هو أحد الخطوط الأساسية التى اشتهر بها الداعية الإسلامى الشيخ عبد الحميد كشك، الذى قال عن الغناء: «ليس اعتراضى على الكلمة المغناة وحدها وإنما هو الاعتراض على الغناء من حيث المبدأ، فإذا ما أضيف إلى هذا خلاعة الكلمة أيضا كان الأمر شرًّا ووبالًا»، وقال الشيخ كشك تعليقًا على أغنية أم كلثوم البديعة «إنت عمرى» التى كتبها الشاعر أحمد شفيق كامل ولحّنها الموسيقار محمد عبد الوهاب: امرأة فى الثمانين من عمرها تقول: «خدنى لحنانك خدنى.. يا شيخة ربنا ياخدك»، وكان مثل هذا الهجوم المبتذل غير ممكن قبل غزو تيار الغلو الدينى واحتلاله للشارع المصرى بمباركة دولة السادات ومن بعده مبارك الذى استمر فى سياسة المزايدة على تيار التشدد الدينى والفشل فى مواجهته، ثم نجد أن هذا المناخ البائس يدفع مؤلف أغنية «إنت عمرى» نفسه إلى الوقوع فى حبائل فكر بدوى، غير مصرى بالتأكيد، يحرم الغناء، فنقرأ للأستاذ سعيد الشحات فى «اليوم السابع» حوارًا مع المؤلف أحمد شفيق كامل يدور كالتالى:
«لنتكلم عن تحولات أحمد شفيق كامل، إذ توقفت عن كتابة الأغانى..
هل لعلاقتك بالشيخ متولى الشعراوى سبب فى الاعتزال؟
- الشيخ الشعراوى منذ ظهر فى برنامج «نور على نور» الذى كان يقدمه الإذاعى أحمد فراج، وقد تعرفت عليه بعد ذلك بشهرين وأعرفه منذ ذلك الحين إلى أن توفاه الله ولم يكن يعرف أننى الذى كتبت الأغانى إياها التى تذاع، فلما عرف ذلك قال لى ما معناه: إنت غنيت للدنيا كتير ودى دار حنقعد فيها شوية وبعدين حتروح على هناك، سيبك من أغانى الحب واكتب للآخرة شوية فتوقفت عن كتابة الأغانى العاطفية.
لماذا؟ هل لأنها حرام؟
- هوه قال لى كده.
وهل رجل بثقافتك كان يحتاج إلى من يدلُّه على الحلال والحرام، الحلال بيِّن والحرام بيِّن؟
- وبينهما أمور متشتبهات، وهناك آية تقول «فاسألوا أهل الذكر» وكان الشعراوى أحد هؤلاء، وهو من العلماء الذين تجود بهم الحياة كل مئة سنة، وحين يقول لى خد بالك من نفسك يبقى لازم آخد بالى من نفسى.
يعنى لن تكتب أغنية عاطفية واحدة؟
- خالص وإذا كتبتها سأرميها أو أضعها فى الدرج».
وهكذا نرى كيف كان تيار الغلو الدينى الذى اختطف مصر منذ السبعينيات هو المسؤول عن الانحدار الفنى والثقافى والحضارى بشكل عام والذى عانت منه مصر وحتى اليوم، وهذا التيار يحارب الإبداع بكل أشكاله مثل الفكر والأدب والغناء والمسرح والسينما، محاولة اغتيال نجيب محفوظ نموذجًا، لأنه يعرف أن الإبداع يساعد على التحرر الفكرى والوجدانى وهم يريدون عبيدًا يستمعون إلى ما يلقونه عليهم من طروحات فقيرة فكريا وروحيا بلا مناقشة.
فى عهد الإخوان سواء وهم فى مجلس الشعب أو فى الرئاسة كان الهجوم على الفن والفنانين أكثر ضراوة وفجاجة، فرأينا أحد دعاتهم يتهم فنانة جهرًا بارتكاب الزنى، لأنها تمثل فى السينما فرفعت قضية ضده وكسبتها، كما رأى وزير الثقافة الإخوانى أن يمنع رقص الباليه من الأوبرا المصرية، ولهذا فباحتفالنا بقيمة وقمة كأم كلثوم فنحن نؤكد لفظنا للفكر الإخوانى البائس الذى أراد أن يطرد كل فن وكل فكر وكل إبداع من الوجدان المصرى، لكى يسهل حشوه بالهراء الإخوانى من فكر عنصرى متخلف.
أما من لا يدرك أهمية الفن والغناء بالذات فى حياة الشعوب فيكفى أن ندله على قول ابن خلدون واضع علم الاجتماع، إذ قال إن أول مظاهر انحدار حضارةٍ ما هو انحدار أغانيها!
وبهذا القول البديع حقًّا فلنقبل على أم كلثوم لنرى كيف جسدت بأعمالها المثلث المصرى المكون للشخصية المصرية الأصيلة وهو مثلث عناق الإبداع والتدين والوطنية.
التدين المنفتح
بدأت أم كلثوم رحلة إبداعها الفنى وهى طفلة فى قريتها طماى تنشد الأناشيد الدينية مع والدها وشقيقها فى مطلع العشرينيات من القرن العشرين، وفى تلك الفترة، وربما فى طيلة فترات التاريخ المصرى منذ مصر القديمة، لم يكن الوجدان المصرى يفصل فصلًا تعسفيًّا بين الإنشاد الدينى والإنشاد الإنسانى أو العاطفى بشكل عام، إذ كان التدين لدى المصريين دائمًا هو حالة وجودية قبل أن يكون فكرًا عقائديا معينا، ولذلك كان المصرى دائما متسامحا دينيا، وكنا فى مصر فى مرحلة صباى فى الخمسينيات والستينيات نسمع رجل الشارع البسيط يقول «موسى نبى وعيسى نبى ومحمد نبى وكل اللى ليه نبى يصلى عليه»، وكان هذا انعكاسا عبقريا لتفتح الذهن والوجدان المصرى ولمعايشته لفكرة التعددية حتى قبل أن تصبح فهمًا مدنيا شائعا فى الغرب، وقد نشأت أم كلثوم فى هذا المناخ الأرحب للفهم الدينى، ولم تخرج عنه بعد ذلك.
استطاعت أم كلثوم من صغرها وبذكائها وحدسها القروى الفطرى أن تكتشف أن الفن الجميل لا يتعارض مع التدين الحقيقى، بل هو امتداد طبيعى له، وأن الفن هو تعبير إبداعى عن أشواق الإنسان وحاجاته العاطفية والروحية، ولذلك لم تستسلم للمفهوم المنغلق للتدين، فما إن وسعت مداركها الذهنية حتى استوعبت إمكانية تَعانُق الفن مع أشواق الروح الإنسانية السامية فتحررت من أغلال المفاهيم الضيقة للتدين التى يروجها المتشددون المتزمتون فقراء الروح الذين يطاردون الجمال فى كل أشكاله.. فراحت تقدم أغنيات راقية تعتمد الكلمة الشاعرية المرهفة واللحن المعبر المبدع والأداء الصادق الصارم دون خلاعة أو ابتذال.
واستطاعت أم كلثوم بهذا أن تفرض على مجتمعها الذى كان متزمتًا مفهومًا أوسع وأجمل وأكثر إنسانية وروحانية للتدين. وكانت حياتها الخاصة والعامة وسلوكها الشخصى تؤكد هذا بشكل واضح. فلم يستطع أحد من المتزمتين فى حياتها أن يرفع صوته قائلًا إن الفن حرام، كما راح يقول البعض منذ رحيل أم كلثوم، حيث اضطرت بعض المطربات والممثلات إلى اعتزال الفن أمام هذه الدعاوى المنغلقة ضد الفن والفنانين.
لقد رحلت أم كلثوم فى الوقت المناسب قبل أن ترى المجتمع المصرى حولها يعود القهقرى إلى عصور الظلمات ثقافيا وفنيا وإبداعيا واجتماعيا.
إن هذا الحل الفردى الذى قدمته أم كلثوم لعلاقة الفن بالتدين والنموذج الذى فضت به هذه الإشكالية المفتعلة يصلح لأن يكون النموذج المطلوب اليوم لبناء نهضة ثقافية قوية، فلا نهضة لمجتمع يحارب الإبداع أو يضعه فى ركن معتم، كما هو الحال اليوم مع الدروشة الدينية السائدة التى لا تعرف من التدين الحقيقى سوى مظاهره الميكانيكية دون روحه الإنسانية الخلاقة المبدعة المحررة لطاقات الناس والأمة.
وبالطبع قدمت أم كلثوم عديدًا من الأغانى الدينية إلى جانب تقديمها للأغانى العاطفية فلم تمنعها هذه عن تقديم تلك، ومن أهمها أغانى رابعة العدوية بالغة الجمال، كما قدمت إحدى أجمل الأغانى الدينية على الإطلاق من كلمات بيرم التونسى وألحان رياض السنباطى، وهى «القلب يعشق كل جميل».
الوطنية المتوهجة
إذا أردنا مثالا واحدًا لمدى ما قدمت أم كلثوم لوطنها مصر فلنذكر أنه يكفيها أن أحد أناشيدها الوطنية، وهو «والله زمان يا سلاحى» كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، اختير ليكون هو السلام الجمهورى لمصر، ولا يقلل من قيمة هذا أن السلام حاليا هو لحن «بلادى بلادى» للعملاق سيد درويش، ولكن كان نشيد «والله زمان يا سلاحى» من الصيحات الأعلى دويًّا على لسان الجميع عند انطلاقه فى معمعة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956. كما أن لأم كلثوم عددًا آخر من الأناشيد الوطنية الحميمة التى زكّت بها الروح الوطنية للمصريين فى كل مراحل نضالهم طوال الفترة الناصرية بالذات، ولم تكن وطنية أم كلثوم منغلقة متعصبة فقد كان العهد الناصرى عهد انفتاح على العالم لتأسيس حركة عدم الانحياز وحركة الدول الإفريقية الآسيوية والتحالف مع جميع حركات التحرر فى العالم، وبعد الهزيمة العسكرية فى 67 أصرت أم كلثوم على عدم إلغاء حفلاتها بفرنسا فقامت بها فعلًا، كما زارت عددًا من الدول العربية تغنى فيها لصالح المجهود الحربى فمنحها عبد الناصر جوازًا دبلوماسيًّا باعتبارها سفيرة على أعلى مستوى، وكان هذا تأكيدًا لواقع حى كانت تستقبلها الدول فيه كما يستقبل الملوك والرؤساء، وهى مكانة لم يعرفها مطرب أو مطربة عربية أو أجنبية أخرى فى تاريخ الفن.
الإبداع المحلق
إذا أردنا قياس مكانة أم كلثوم الفنية التى صنعها إبداعها الفريد فما علينا سوى الخروج خارج مصر لكى نرى كيف اعترف العالم بهذه الظاهرة الفنية الفذة، فقد وصلت أم كلثوم إلى مكانة الرؤساء والملوك.. فهكذا كان يتم استقبالها من الدول العربية والغربية التى زارتها بعد أن أصبح لقبها الذى منحته لها جماهير المستمتعين بفنها «كوكب الشرق»، حتى إن الرئيس الفرنسى شارل ديجول أحد عمالقة العالم فى القرن العشرين كتب لها قائلا وهى تغادر فرنسا بعد غنائها بها «لقد لمست بغنائك شغاف قلبى وقلوب الملايين من الفرنسيين»، وقد صارت أم كلثوم معروفة بدرجة كافية على مستوى العالم، حتى إنه فى عام 2000 أظهر استطلاع للرأى فى أوروبا أن الأوروبيين يعتبرونها واحدة من أهم مئة شخصية ظهرت فى العالم فى القرن العشرين.
لم تحقق أم كلثوم تميزها الفنى وقيمتها الإبداعية الشاهقة صدفة ولكن نتيجة لاعتناق مبادئ وخصال محددة فى علاقتها بما تقدمه من إبداع وبأسلوب هذا التقديم، فقد كانت تهتم بإتقان عملها وتقديمه على أفضل درجة، مما كان يتمثل فى حرصها الفائق على مواعيدها ووقتها فى مجتمع ليس للوقت والمواعيد فيه أى احترام إلى يومنا هذا. فكانت لا تسمح بتأخر المؤلفين أو الملحنين عن موعد البروفات ولو لدقائق قليلة حتى وقعت مشكلات مع الشيخ سيد مكاوى الذى كان شهيرًا بعدم قدرته على الوصول فى الموعد مثله مثل معظم المصريين بسبب الثقافة السائدة، وظهر اهتمامها بالعمل أيضا فى إصرارها على القيام بعدد ضخم من البروفات لكل أغنية والسهر لساعات طوال حتى يصل العمل إلى حد الاكتمال الإبداعى، وكانت كثيرًا ما تقوم بعمل ثلاثين أو أربعين بروفة كاملة للأغنية الجديدة، كما كانت تختار كلمات أغنياتها بعناية فائقة وتقوم بتعديل الكلمات حتى لو أدى هذا إلى امتناع بعض المؤلفين عن تقديم أعمالهم لها، وكذلك لم تكن تتعامل إلا مع كبار الملحنين القادرين على منحها أعلى ما وصلته عبقرية الخلق الموسيقى فى مصر فى زمانها، فغنت من ألحان زكريا أحمد والقصبجى والسنباطى والشريف والطويل وعبد الوهاب وبليغ والموجى ومكاوى. وكانت قادرة على تحفيز هؤلاء العمالقة لكى يقدم كل منهم لها أفضل ما تستطيع قريحته الإبداعية، فكانت النتيجة هى ثروة هائلة من الأعمال الإبداعية الشاهقة مستحيلة التكرار، حتى إننا نرى مطربات الأجيال التالية لها عندما يريدون تقديم حفلة غنائية مميزة لا يجدون سوى أغنيات أم كلثوم التى قدمتها فى الخمسينيات والستينيات يقدمونها لجمهور اليوم فيهتز لها طربًا كما فعل الجيل السابق له.
إن الشعب المصرى الذى أنبت أم كلثوم واحتضنها واستمتع بإبداعها وما زال، إلى ما يقرب من القرن، سواء فى حياتها أو بعد رحيلها فى الثالث من فبراير عام 1975 لَقادرٌ على صنع المناخ الحضارى والثقافى اللازم لظهور أم كلثوم جديدة عصرية، إذا ما استوعبنا أسرار هذه الظاهرة الإبداعية الفذة التى جسدت العبقرية المصرية بأضلاعها الثلاثة، الإبداع الخلاق، والوطنية المتوهجة، والتدين المنفتح المستنير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.