إن أهم ما أسفرت عنه تسريبات موقع( ويكيليكس) الماضية والحاضرة, أن حصان التلفيق الأمريكي, الذي طالما طاف في أروقة السياسة العالمية, معتمدا علي التفوق في الاقتصاد والسلاح وعلي فساد ضمير الرأي العام العالمي, الذي استطاع الأمريكيون ترويضه. شاءالقدر ان تغلق في وجهه المنافذ, ولاتزال الدائرة تضيق عليه يوما بعد اليوم. أعتقد ولا أظن إلا أن الكثيرين يشاطرونني هذا الاعتقاد, أن هناك رأيا في التلفيق الامريكي, لم أجد أصدق منه ولا أحكم, وهو علي كل حال يضع الولاياتالمتحدةالأمريكية في مكانة قل من يستطيع انكارها عليها, وفحواه ان التلفيق المعتمد علي النزعة الاستعلائية الفوقية, التي لا تعبأ بضيق الحكام, ولا بغضب الشعوب, ولا بإضافة مزيد من الاجهاد إلي أنظمة يكاد الاجهاد يبلغ بها مداه, هوالتجسيد الحي لفكرة وجود أمريكا. وليس الحديث عن التاريخ الكامل للتلفيق الأمريكي المهيمن من أهدافنا, ذلك انه موضوع لا نهاية له, وحسبنا الاكتفاء منه بما جرت احداثه في العصر الحديث. وعند هذا الحد نجد العون في مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بربجينسكي حين طرح فكرة إعادة الأمور في المشرق العربي, إلي ما كانت عليه في العهد العثماني. وهو التشرذم القبلي والطائفي والتناحر, إذا ما رغبت أمريكا في استمرارية فرض هيمنتها. وبعد بريجينسكي بأكثر من ربع قرن من الزمان, يبشر نائب وزير الخارجية الأمريكي روبرت زوليك عام2006 م: بانهيار النظام الاقليمي القديم في المنطقة, وفيمابعد جاء في مشروع الاستراتيجية الامريكية لما بعد بوش الابن والتي وضعها كبار صانعي السياسة الخارجية من الجمهوريين والديمقراطيين عام2008 م, نفس القول بانهيار النظام الاقليمي في الشرق الأوسط. ويمكننا ان نذكر في هذا السياق, ان مسألة تغيير الشرق الأوسط, هي نتاج لفكر رجل اسرائيل يدعي ناثان شارانسكي وكان احد وزراء حكومة الليكود بزعامة ارييل شارون وهو سياسي اسرائيلي أعلن الرئيس( بوش الابن) أكثر من مرة, اقتناعة بأفكاره في مسألة تشكيل الشرق الأوسط, وبالطبع لحساب أمن إسرائيل ودولتها الكبري, ومن المفيد هنا الإشارة إلي مانشيت عريض خرجت به صحيفة( وول ستريت جورنال) عقب غزو العراق يقول: حلم الرئيس التغيير لا في الأنظمة فحسب, بل في المنطقة شرق أوسط ديمقراطي مؤيد لأمريكا وهو هدف يجد الرغبة الملحة إليه لدي اسرائيل والمحافظين الجدد. ومن هنا وعلي هذا الأساس, نستطيع ان نتحدث عن أحد أهم مفجري الطاقة الصهيونية المتوهجة بسعير الدمار والكراهية للعرب والمسلمين, وهوالمستشرق اليهودي برنارد لويس الذي ركز في أحد كتبه التي أصدرها قبيل غزو العراق كثيرا علي النزاعات الإقليمية والحدودية في العالم العربي, ويري أنها أكثر حدة, ويمكن ان تدوم طويلا, فهناك الأطماع الإيرانية في منطقة الخليج العربي, كما أنه يمكن احياء الخلافات الحدودية بين مصر والسودان, بل بين مصر وليبيا. ويركز ايضا علي الحروب الأهلية داخل البلاد العربية نفسها, وتقدم الحرب الأهلية اللبنانية المثل الأبرز لهذه الحروب, فقد دامت طويلا, وتسببت في تشظي الدولة إلي مزيج من الطوائف والمناطق والميليشيات, وهو الأمر الذي يمكن ان يحدث في العديد من البلدان العربية, وكم كان ذا معني ومغزي, ما ذهب إليه هذا الصهيوني, من ان معظم الدول العربية والإسلامية, لم تستعد بعد للقرن الحادي والعشرين, لأنها لم تصل بعد للقرن التاسع عشر, وفي هذا الصدد, يري روجيه جارودي في كتابه أمريكا طليعة الانحطاط.. كيف يعد للقرن الحادي والعشرين: إن أمريكا في خطتها للسيطرة علي العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, عينت العدو البديل, أو الشيطان الذي يجب القضاء عليه وهوالإسلام وحلفاؤه المحتملون. ومما لا ينبغي إغفاله في هذا المقام, ان فكرة الفوضي الخلاقة التي جابهتنا بها كوندوليزا رايس إنما استقتها من أفكار برنارد لويس الذي استقي بدوره أفكاره من خلال دراساته لأفكار تنظيم الإسماعيلية الباطنية( الحشاشين), والذي لم يأل جهدا في سبيل استخلاص العبرمن تاريخنا, بغية توظيفها في نشر الفوضي الهدامة في أرجاء العالمين العربي والإسلامي, ومثل هذه الاعتبارات قمينة جديرة بأن تقودنا إلي ما أعلنت عنه رايس من مشروع وزارة الخارجية الأمريكية في تأسيس لجنة تابعة لوزارتها هدفها تلفيق الكذب بما يخدم مصالح أمريكا وإسرائيل. والواضح هنا دون الالتجاء إلي الإسهاب في الأدلة, ان التحالف الامريكي الاسرائيلي قد تمكن من تحويل اتجاهات العرب, فبدلا من تركيزهم السابق علي الصراع العربي الاسرائيلي جري اغراقهم في حروب أخري, استنزفت قدراتهم السياسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية, مثل حرب العراق إيران المغرب جبهة البوليساريو, الحرب الأهلية اللبنانية, ثم كان احتلال العراق للكويت, الذي كان له دوره البارز في تحطيم البقية الباقية من الأمن القومي العربي, وها هي تتجلي أكثر في الحرب الطائفية الدائرة في العراق, وأزمة لبنان, ومشكلات السودان والصومال, والتصعيد الدائر علي جبهة المغرب البوليساريو, وما استجد في اليمن من صراعات شتي, قد تؤدي إلي تقسيمه لعدة دول والأخطر من هذا وذاك. مخاوف دول الخليج الأمنية من هواجس صعود القوة النووية الإيرانية, وقد شاهدنا ما جري في هذا الشأن من خلال تسريبات موقع ويكيليكس الأخيرة, التي وضعت دول الخليج في موقف لا تحسد عليه, وإظهار إيران بالدولة المفتري عليها, وكانت الطامة الكبري, حين ارادت حركة حماس ان تقطف ثمرة, فقطعت شجرة. ويشير جارودي إلي ذلك بقوله: إن النقطة الحساسة لحدود الامبراطورية الأمريكية في الخليج العربي الفارسي, الذي تحيط به أغني منابع البترول, والذي سيظل عصب التنمية الغربية لامد طويل, لذلك فإن جماعتي الضغط اللتين حركتا سياسة امريكا أي اللوبي اليهودي ولوبي رجال الأعمال هما اللتان اخرجتا حرب الخليج عام1990 م. وفي هذا الصدد يقول المؤرخ( ريتشارد ايميريان) ان القوة والأمن الأمريكيين يعتمدان بشكل اساسي علي الحصول علي المواد الأولية من العالم, وبالأخص دول الخليج العربي التي يجب ان تبقيها امريكا تحت السيطرة الشديدة. الا أن الرياح قد تأتي بما لا تشتهي سفن امريكا, وعند هذا الحد نجد العون فيما آلت إليه الأمور في كل من العراق, وافغانستان, ورقم الديون المفزعة التي تدين بها أمريكا للصين ودول الخليج وجهات أخري, ويفضح جارودي نقطة الضعف الرئيسية في تلك الامبراطورية التي تفتقد لأي روح, فليس لديها أي مشروع جماعي من اجل مستقبل الإنسان, اللهم الا تطوير انتاجها واستهلاكه, اعتمادا علي التفوق في السلاح. وهذا الرأي لم ينفرد به جاروديه وحده, بل شاركه فيه العديد من المفكرين والمحللين السياسيين, والقاسم المشترك لوجهة نظرهم, ان الواقع الامريكي, وتآكل المجتمع من الداخل, وانهيار الأسرة والبطالة, وضغوط الضرائب والفساد الإداري, وتحكم اللوبي اليهودي بمقدرات السياسة الداخلية والخارجية لأمريكا وغضب الشعوب الذي توجته أخيرا تسريبات موقع ويكيليكس ملامح مشتركة لا تبشر بمستقبل أفضل للقطب الأوحد, وربما تقتضي المعايير المزدوجة, وغياب اخلاقيات السياسة إلي نهايات سيذكرها التاريخ, وكم كان ذا معني ومغزي, ما اشار إليه وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة من ان روما العظيمة قد انهارت في وقت قصير, لم يتوقعه التاريخ.. إن روما قد انهارت وانهزمت بفعل محاولاتها الهيمنة علي العالم, وبفعل تآكل بنيتها الأخلاقية, فقد بلغ التحلل في المجتمع الروماني حدا بعيدا, رافقه تحلل سياسي ثم تفكك عسكري.