سيظل العالم لفترة طويلة يتحدث عن الوثائق التي قام موقع ويكيليكس بنشرها علي شبكة الانترنت. فقد أصبحت هذه الوثائق تشبه صندوق الدنيا الذي لا يمل أحد مشاهدته ربما لأن جانب النميمة السياسية هو الأكثر إثارة في الوثائق التي تم تسريبها. وستبقي هذه الوثائق مصدرا للتساؤلات والدعابات من نواح عدة. ثمة تساؤلات تفرض نفسها أولا عن المسئول الحقيقي وراء تسريب هذا الكم الهائل من الوثائق التي تقدر بمئات الآلاف ؟ وهل يمكن لجندي في الجيش الأمريكي أن يقوم وحده بكل هذا العمل كما تشير التحقيقات الأولي أم أن الأمر أكبر من هذا ؟ وماذا عن إسرائيل التي خرجت من هذا الإعصار الإلكتروني بأقل الخسائر؟ بل لعلها أكثر الدول ارتياحا وهي ترقب ما تسببت فيه الوثائق التي تم تسريبها من إزعاج وحرج للغير بينما ظلت دبلوماسيتها بعيدة- حتي الآن- عن فضائح العيار الثقيل. هل نصدق تفسير رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو بأنها الشفافية الاسرائيلية أم أن إسرائيل قد أتقنت كدأبها ألعاب الدهاء وسياسة الازدواجية؟ ثم ماذا عن الموقف القانوني لمؤسس الموقع الالكتروني ويكيليكس جوليان أسانج بصرف النظر عما قيل في اتهامه بجريمة اغتصاب؟ هل تنجح العقلية القانونية الأمريكية في ابتداع ما يمكن مساءلة أسانج عنه من نشر وثائق تضر بالمصالح العليا الأمريكية أم أن حرية تداول المعلومات كحق من حقوق الإنسان ستبقي طوق النجاة الذي يتشبث به صاحب ويكيليكس؟ يمكن لكل متابع للسياسة العالمية والعلاقات الدولية أن يجد في وثائق ويكيليكس ما يشتهيه ويبحث عنه! وسيجد فوق ذلك قدرا إضافيا من الإثارة والدعابة يجعلان من أمور السياسة والدبلوماسية مجالا ممتعا ومسليا للبحث والقراءة. فها هي هيلاري كلينتون تتقصي عن أدوية المهدئات التي قيل أن رئيسة الأرجنتين تتناولها وعن علاقتها بزوجها الراحل.. والرئيسة الأرجنتينية تتأهب الآن للرد فيما سيبدو مشاجرة نسائية من مستوي دبلوماسي عال! وها نحن نكتشف أيضا أن دول الديموقراطيات الغربية الكبري ليست أبدا فوق مستوي الشبهات وأن الحكايات الصغيرة وراء نوافذها المغلقة لا تختلف كثيرا عما يحدث في أي بلد صغير في العالم. هكذا تتحدث وثائق ويكيليكس عن رئيس الوزراء الإيطالي الذي يتقاضي العمولات من شركات النفط الروسية, وأن عوائد الفساد في روسيا تبلغ300 مليار دولار سنويا يتورط فيها رئيس الوزراء الروسي نفسه! والأعجب من هذا أن نقرأ في الوثائق المسربة أن الرئيس الفرنسي ساركوزي كان يقدم نفسه قبل وصوله للحكم باعتباره رجل أمريكا في أوروبا حتي أطلق عليه الدبلوماسيون الأمريكيون في رسائلهم ساركو الأمريكي!! وأنه أكثر الرؤساء الفرنسيين تأييدا لأمريكا منذ الحرب العالمية الثانية. بل إنه أبلغ الأمريكان بعزمه علي الترشح لولاية جديدة قبل أن يعلن هذا رسميا في فرنسا! ولم يكن سرا أبدا أن تكشف وثائق ويكيليكس عن التغلغل الأمريكي داخل المنظمات الدولية وعلي رأسها الأممالمتحدة ومحاولة التنصت علي الدبلوماسيين الأجانب ومراقبتهم, ربما يبدو هذا أمرا تفعله دول أخري علي الرغم من مخالفته للاتفاقيات الدولية. لكن المثير للانتباه ما كشفت عنه الوثائق من اعتراض أمريكي صريح وقاطع علي ترشيح وزير الثقافة المصري لرئاسة اليونسكو بسبب ما قيل عن بعض مواقفه ضد اسرائيل. والأغرب والأخطر من هذا أيضا أن تكشف الوثائق عن أن المدير العام الحالي للوكالة الدولية للطاقة النووية قد أبلغ المندوب الأمريكي في الوكالة أن سيضطر إلي تقديم بعض التنازلات الصغيرة للدول النامية لكنه يتعهد بالوقوف في الجانب الأمريكي بشأن القرارات الاستراتيجية المهمة وما يتعلق بشغل الوظائف العليا في الوكالة الدولية. فهل هكذا أصبح طريق الوصول إلي المناصب الدولية الكبري؟! ما يلفت الانتباه أيضا في تسريب وثائق ويكيليكس هو النظرة التي يري من خلالها الدبلوماسيون الأمريكيون حزب العدالة والتنمية التركي. فوزير الخارجية التركي دواد أوغلو لدي الدبلوماسية الأمريكية ليس ذكيا في نظريته الشهيرة المعروفة بتعبير صفر مشاكل مع جيران تركيا, ولا في سعيه لتوظيف الدور التركي بذكاء في بعديه الغربي والإسلامي وإنما الرجل لديهم يوصف بأنه خطير للغاية! لأن له تأثيرا إسلاميا علي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان والذي نشر عنه أيضا أنه ما زال يحتفظ بحسابات سرية في مصارف سويسرا. وقد دعا ذلك أردوجان للإعلان عن أنه سيلجأ للقضاء المحلي والدولي لمساءلة المتسببين في محاولات تشويه سمعته. ولعل حالة أردوجان هي الأولي التي يعلن فيها أحد المتضررين من تسريبات وثائق ويكيليكس عن إمكانية لجوئه للقضاء. ومن بين ثنايا الوثائق المسربة يمكن العثور علي بعض خصوصية العلاقة بين إسرائيل وأمريكا. فإحدي الوثائق تكشف عن رفض أمريكي لطلب إسرائيل بالإطلاع سلفا علي تقرير كان سيعرض علي الكونجرس الأمريكي لتزويد إحدي الدول العربية بالسلاح. معني ذلك أن لإسرائيل يدا طولي داخل أمريكا تصل أحيانا للتدخل في أدق الشئون السرية للكونجرس الأمريكي! ولئن كانت أمريكا قد رفضت الطلب الاسرائيلي هذا المرة-كما تقول الوثائق- فهل ينفي ذلك إمكانية تصور حدوثه في مرات أخري؟ الأرجح والمتوقع أن يتواصل نشر الوثائق التي تم تسريبها, وربما تكشف الوثائق الجديدة عن أسرار ودعابات أخري. المهم الآن هو رصد دلالات ما حدث واستخلاص بعض الدروس المستفادة. فما زلنا لا نعرف علي وجه التحديد من الذي يقف بالفعل وراء هذه التسريبات وهل ثمة جهة خفية ما تحرك الأحداث عن بعد وتدفع عمليات التسريب نحو أهداف معينة؟ وكيف سيكون تأثير دور موقع ويكيليكس مستقبلا علي حركة الفضاء الإلكتروني بالتبشير بقوة معلوماتية جديدة تتجاوز الحدود والحواجز وتغير مفهوم القوي والعوامل التقليدية التي تصنع الأحداث في العالم؟ هذا سؤال في غاية الأهمية. لقد رفض محرك البحث الالكتروني أمازون وغيره من محركات البحث الأمريكية استضافة موقع ويكيليكس حتي استطاع جوليان أسانج بالكاد العثور علي محرك يقبل استضافته علي شبكة الانترنت. لكن إلي متي يظل متوافرا لهذا المشاغب الإلكتروني الأكثر خطورة في العالم حق اللجوء الالكتروني لموقعه بقدر ما قد يسعي أيضا للبحث عن حق اللجوء السياسي لشخصه؟ وفي نهاية المطاف فإن السؤال الأكثر أهمية والأشد قلقا هو: كيف يمكن قراءة التهديدات الأمريكية بملاحقة صاحب موقع ويكيليكس جوليان أسانج قانونيا ؟ وهل يعني ذلك أن العالم الغربي وعلي رأسه الولاياتالمتحدةالأمريكية يمكن أن يرتد بسبب تسريبات ويكيليكس عن مبدأ حرية الرأي والحق في تداول المعلومات فيلجأ لفرض قيود قانونية تهدر كل ما حققته الحضارة الغربية المعاصرة من منجزات حقوقية وسياسية؟ إلي أن نتأكد من ذلك يبدو أنه علي الدبلوماسيين من الآن فصاعدا واجب الحذر والتحوط فيما يكتبون أو يقولونه وإلا فليلزموا الصمت! المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم