لا أستطيع أن أنسى. هكذا أخذ كمال عبدالرحيم يحدث نفسه وهو قابع فى ركن منعزل فى مقهى الصفا بعماد الدين. واسترسل كمال فى أفكاره وذكرياته وهو يهمس لنفسه: وإنى لأتذكر أول مكائد القدر معى. يومها كنت فى السادسة عشرة من عمرى، وكانت هى فى الرابعة من عمرها. وكنا نأتى فى الصيف فى الميعاد نفسه وكنا جارين فى بناية واحدة. وكانت شقتى فى الطابق الذى يعلو شقتها مباشرة، وكانت تقيم بالطبع مع أهلها وأنا نفس الشئ. وذات ليلة ليست كسائر الليالى، أحسست فيها بالأرق حوالى الساعة الثانية صباحا. وقمت من سريرى وتناولت علبة سجائرى من تحت الوسادة كعادتى كل ليلة، وانسحبت بخطوات خفيفة إلى الخارج ووقفت خارجا أدخن لفافة تبغ وما لبثت أن لمحت صفاء خارجا وبيدها هى الأخرى لفافة تبغ. وهمست أناديها: - صفاء. ورفعت صفاء برأسها وهمست: ولحظتها وجدت العجب العجاب. رأيت شبحا أبيض بلون الثلج يصل طوله إلى عدة أمتار يختطف صفاء ويقفز بها حتى الطريق العام. وتابع قفزه حتى وصل بها إلى إفريز الشاطئ ثم الكبائن فرمال الشاطئ ثم خاض بها عبر أمواج البحر وما لبثت وأن عاد بها ثانية بعدما بلغت الساعة حوالى الخامسة صباحا. ومع مقدم الفجر خفت سرعة الشبح حتى استطعت أن أختطف صفاء من بين مخالبه. وهتف بى الشيخ غاضبا - لتعلم أن صفاء لا تحب سواى. وتذكر أنها ستظل تردد على الدوام هذه الكلمات: إنى أحبه ذلك الذى أتانى ليلا واختطفنى يحبنى وأحبه. واختفى الشبح، بينما لم أعر كلماته أى أهمية. وفى ظهيرة اليوم التالى قمت متعبا وذهبت إلى حيث صفاء وهى ترتدى بلوزة صفراء وسروالا أبيض. وهتفت هى قائلة: - أهلا كمال. وأجبتها قائلا: - أشكر الله أنك قد تمالكت روعك بعد أحداث الأمس المثيرة. قالت وهى تنظر إلى بشئ من عدم الفهم: - أى أحداث مثيرة تقصد؟ وأردفت وقد اتسعت ضحكتها؟ - إنى لا أفهمك؟ قلت لها: أقصد ما حدث لنا فى الثانية صباحا حينما ظهر لنا الشبح وأمسك بك وأخذ يعدو بك وأنا أعدو وراءكما حتى الخامسة صباحا. قالت وهى تنفجر ضاحكة: - أى شبح هذا؟. ماذا جرى لك يا كمال؟! ولم يكن بيدى إلا أن أسحب نفسى من أمامها وقد تمالكنى السخط والغضب. وفى مساء اليوم التالى التقينا، فوجدت منها عين الإنكار وعين الذهول والدهشة. ولم البث أن بادرتها قائلا: - أما زلت يا صفاء لا تتذكرين حوادث الأمس؟ - ماذا تقصد؟. هل تقصد موضوع الأشباح هذا؟ - نعم. وإذا بى أفاجأ تنطلق فى سيمفونية من الضحك وهى تغطى فمها الجميل بأحد كفيها. ولاذت بالصمت. ثم ما لبثت أن أخذت تنظر بذهول أمامها فى لاشئ وأخذت تهمس فى أسى عميق: انى أحبه ذلك الذى أتانى ليلا واختطفنى. يحبنى وأحبه. وأخذت أتذكر. إنها عين كلمات الشبح التى لم أعرها وقتها أى أهمية! وفى الليل فى ساعة متأخرة، أبصرت بالشبح اللعين يظهر أمامى، وأخذ يفح فحيحا غريبا ثم ميزت من صوته الكلمات: إياك وأن تحاول تسجيل صوت صفاء. واختفى الشبح من أمامى. وتكررت سرحات صفاء وهمساتها التى تعلن فيها عن حبها للشبح. وذات مرة سجلت هذه الهمسات واسمعتها لصفاء وسألتها عما سمعته فقالت لى: - ما هذا؟ هذا ليس صوتى. ورأى بنفسه وعاين تلك الظاهرة، وحينما سألته عما قالته صفاء، فوجئت به يقول لى: - انها لم تقل شيئا. فقط كانت تحرك شفتيها ولكأنها كانت تعد أرقاما فى رأسها. وصحت به فى ذهول: - ألم تسرح أمامك وتهمس بكلمات معينة؟! وأجاب رؤوف فى براءة - كلا، إطلاقا. وهنا تنتهى الحادثة الأولى. وليبدأ السيد كمال عبدالرحيم وهو قابع مكانه فى مقهى الصفا يسترسل مع ذكرياته التالية، والتي أخذت من عمره أربعة عقود من الزمن.