إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تجدد استهداف المناطق الشرقية لمدينة غزة    تغيرات مفاجئة.. مناطق سقوط الأمطار وتنبيهات عاجلة للأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم    ترامب: الضربات الجوية على أهداف في فنزويلا ستبدأ قريبًا    أول تعليق من ترامب على ظهوره مع نساء في صور أرشيف إبستين    دمج وتمكين.. الشباب ذوي التنوع العصبي يدخلون سوق العمل الرقمي بمصر    زيادة متوقعة في إنتاج اللحوم الحمراء بمصر إلى 600 ألف طن نهاية العام الجاري    أذان الفجر اليوم السبت13 ديسمبر 2025.. دعاء مستحب بعد أداء الصلاة    تدريب واقتراب وعطش.. هكذا استعدت منى زكي ل«الست»    بين مصر ودبي والسعودية.. خريطة حفلات رأس السنة    بدأ العد التنازلي.. دور العرض تستقبل أفلام رأس السنة    قفزة تاريخية.. مصر تقترب من الاكتفاء الذاتي للقمح والأرز    د.هبة مصطفى: مصر تمتلك قدرات كبيرة لدعم أبحاث الأمراض المُعدية| حوار    بعد الخروج أمام الإمارات، مدرب منتخب الجزائر يعلن نهايته مع "الخضر"    تقرير أممي: التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية يبلغ أعلى مستوى له منذ عام 2017 على الأقل    ياسمين عبد العزيز: كان نفسي أبقى مخرجة إعلانات.. وصلاة الفجر مصدر تفاؤلي    مصرع شخص وإصابة 7 آخرين فى حادث تصادم بزراعى البحيرة    ترامب يثمن دور رئيس الوزراء الماليزى فى السلام بين كمبوديا وتايلاند    هشام نصر: سنرسل خطابا لرئيس الجمهورية لشرح أبعاد أرض أكتوبر    اليوم.. محاكمة المتهمين في قضية خلية تهريب العملة    ياسمين عبد العزيز: ما بحبش مسلسل "ضرب نار"    سلوى بكر ل العاشرة: أسعى دائما للبحث في جذور الهوية المصرية المتفردة    أكرم القصاص: الشتاء والقصف يضاعفان معاناة غزة.. وإسرائيل تناور لتفادي الضغوط    محمد فخرى: كولر كان إنسانا وليس مدربا فقط.. واستحق نهاية أفضل فى الأهلى    وول ستريت جورنال: قوات خاصة أمريكية داهمت سفينة وهي في طريقها من الصين إلى إيران    قرار هام بشأن العثور على جثة عامل بأكتوبر    بسبب تسريب غاز.. قرار جديد في مصرع أسرة ببولاق الدكرور    محمود عباس يُطلع وزير خارجية إيطاليا على التطورات بغزة والضفة    كأس العرب - مجرشي: لا توجد مباراة سهلة في البطولة.. وعلينا القتال أمام الأردن    أحمد حسن: بيراميدز لم يترك حمدي دعما للمنتخبات الوطنية.. وهذا ردي على "الجهابذة"    الأهلي يتراجع عن صفقة النعيمات بعد إصابته بالرباط الصليبي    الأهلي يتأهل لنصف نهائي بطولة أفريقيا لكرة السلة سيدات    فرانشيسكا ألبانيزي: تكلفة إعمار غزة تتحملها إسرائيل وداعموها    تعيين الأستاذ الدكتور محمد غازي الدسوقي مديرًا للمركز القومي للبحوث التربوية والتنمية    ياسمين عبد العزيز: أرفض القهر ولا أحب المرأة الضعيفة    ننشر نتيجة إنتخابات نادي محافظة الفيوم.. صور    محافظ الدقهلية يهنئ الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم من أبناء المحافظة    إصابة 3 أشخاص إثر تصادم دراجة نارية بالرصيف عند مدخل بلقاس في الدقهلية    إشادة شعبية بافتتاح غرفة عمليات الرمد بمجمع الأقصر الطبي    روشتة ذهبية .. قصة شتاء 2025 ولماذا يعاني الجميع من نزلات البرد؟    عمرو أديب ينتقد إخفاق منتخب مصر: مفيش جدية لإصلاح المنظومة الرياضية.. ولما نتنيل في إفريقيا هيمشوا حسام حسن    بعد واقعة تحرش فرد الأمن بأطفال، مدرسة بالتجمع تبدأ التفاوض مع شركة حراسات خاصة    سعر جرام الذهب، عيار 21 وصل لهذا المستوى    الإسعافات الأولية لنقص السكر في الدم    الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر بشأن تزايد الطلب على موارد المياه مع ازدياد الندرة    مفتي الجمهورية يشهد افتتاح مسجدي الهادي البديع والواحد الأحد بمدينة بشاير الخير بمحافظة الإسكندرية    غلق مزلقان مغاغة في المنيا غدا لهذا السبب    لجنة المحافظات بالقومي للمرأة تناقش مبادرات دعم تحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي    مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 12ديسمبر 2025 فى المنيا    انطلاقة قوية للمرحلة الثانية لبرنامج اختراق سوق العمل بجامعة سوهاج |صور    محافظ أسوان يأمر بإحالة مدير فرع الشركة المصرية للنيابة العامة للتحقيق لعدم توافر السلع بالمجمع    اسعار الفاكهه اليوم الجمعه 12ديسمبر 2025 فى المنيا    سويلم: العنصر البشري هو محور الاهتمام في تطوير المنظومة المائية    هشام طلعت مصطفى يرصد 10 ملايين جنيه دعمًا لبرنامج دولة التلاوة    ضبط المتهمين بتقييد مسن فى الشرقية بعد فيديو أثار غضب رواد التواصل    نقيب العلاج الطبيعى: إلغاء عمل 31 دخيلا بمستشفيات جامعة عين شمس قريبا    بتوجيهات الرئيس.. قافلة حماية اجتماعية كبرى من صندوق تحيا مصر لدعم 20 ألف أسرة في بشاير الخير ب226 طن مواد غذائية    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابة    عاجل- الحكومة توضح حقيقة بيع المطارات المصرية: الدولة تؤكد الملكية الكاملة وتوضح أهداف برنامج الطروحات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزنجفلي (1)
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 03 - 2011

فتل فريد الزنجفلي شاربيه ورفعهما إلي أعلي مثل شاربي الرسام الاسباني الشهير سلفادور دالي‏,‏ ونظر إلي ساعته وأمال الكاسكيت الأسود فوق رأسه, ورغم غبش المساء فقد وضع فوق عينيه عوينات كبيرة وأخذ يرقب باب المنزل علي الرصيف المواجه. كان موقنا أنه بوسائله التنكرية سيستطيع أن يرقب أي تلميذ من تلاميذ والده( الزنجفلي الشهير) دون أن يتعرف عليه أحدهم, حقيقة ليس لديه من الوقت ما يكفي للتجسس علي سلوك أرملة والده الفرنسية مع الأشقياء لكنه يتخلص بذلك مما يلح عليه من ظنون أو مما أهاجت والدته في أعماقه من ظنون, ليتفرغ بعد ذلك لتجارة السيارات التي فتحت أمامه.
***
كانت الأسرة قد صارحت أرملة والده( فرانسواز) برأيها في وضعها, وكأسرة محافظة فقد صارحها عمه بأن لها الحق في العودة إلي فرنسا أو الزواج ممن تهوي من الفنانين دون أن ينقص ذلك من حقوقها, ولكنها أعلنت أن أحدا لن يعوضها عن زعيم الكلاسيكيين أستاذ الجميع ووحيد عصره الزنجفلي الكبير, كما خاصمت كل من اعتبرها غريبة عن البلد بعد أن أصبحت لا تستطيع فراق مصر, وهو يستطيع ألا يكترث لسلوكها إذ يعيش مع أمه في شقة عابدين بينما تعيش هي في السلاملك بالروضة, لولا الهمسات التي أخذت تسهده منذ عامين, الهمسات التي بدأت منذ حفل التكريم قبل وفاة والده.
***
وبدأت الهمسات بالروضة عن التلازم بين فرانسواز وعبدالدايم( آخلص تلاميذ الزنجفلي), ولم يصدق فريد أن تختار الفرنسية التي لا يتسلل اليها المشيب ذات الابتسامة التي خلدها والده( في كل اللوحات التي رسمت لها), لم يصدق فريد أن تختار ذلك الأسمر الكثيف الشعر ذا الملامح الصارمة من دون تلاميذ والده ذو الوسامة أو الذين ينتمون إلي علية القوم, ولم يحضر فريد الحفل الذي أقيم في السلاملك بالروضة, والذي كان مهرجانا حضرته كل الأجيال التي تخرجت علي يدي الأستاذ الكبير, فكان منهم أساتذة الحاضر وجيل الأربعينيات من نجوم الصحافة ومن أبرز الفنانين بالصالونات بعد الحرب.
وعلم فريد أنه كان من بينهم عبدالدايم( قبل أن يعتقل), وكذلك صابر المبعوث الأنيق الذي جعل نصب عينيه الحصول علي أعلي الدرجات واقتناص أول بعثة الي فرنسا.
وتذكر فريد أنه كان من بينهم زميله ميشيل الذي مضي قدما في الدراسة مع والده( الزنجفلي) بينما رفضها فريد إذ شغف بميكانيكا السيارات.
***
وقطع تواتر خواطره ظهور شبح في فجوة الباب رقم3 علي الرصيف المواجه انه صابر.. المعيد وقد اتخذ زينته وها هو يتهيأ للقائها حسب موعد من المواعيد الخفية, وتمهل لحظات ثم انطلق خلف تلميذ والده, وهمس لنفسه: كانت تلتقي بعبد الدايم في صالونات العرض, ولكن لم يكن الأمر في حاجة إلي التخفي مع عبدالدايم, فما ان سجن عبدالدايم حتي بدأت لقاءاتها الخفية مع هذا الشقي.
وكان يعني أنه اختلفت طبيعة لقاءاتها باختلاف شخصيتي تلميذي والده, فلم تعد علنية كما كانت مع عبدالدايم, بل تحولت إلي الريب مع صابر هذا.
***
وانتظر المعيد حتي انقطع سيل السيارات بالشارع الرئيسي ثم عبر مسرعا, ولحق به فريد وهو يتساءل: أن كان عبدالدايم سيظل استمرارا لوالده بعد خروجه من السجن أم سيشغله ما جره إليه المتطرفون من السياسة؟, وسخر من سؤاله عندما عاد للهمس: تقصد استمرارا للزنجفلي في الفن أم في الحب؟
كان يعرف أن أحدا لم يعترض علي تبني الزنجفلي لعبدالدايم, وبالتالي لم يثر تعلق فرانسواز بالموهبة الناشئة التي تعد امتدادا لعبقرية زوجها أي وساوس في الوسط الفني, فما ان تحولت بعد وفاة والده إلي هذا المبعوث الذي لا إنتاج له يذكر في الفن حتي انتقلت الهمسات من الروضة إلي عابدين.
وهمس فريد: برز خلال الفترة التي سجن فيها عبدالدايم, حقيقة كان ضمن لفيف التلاميذ الذين تحلقوا حول الأستاذ في أيامه الأخيرة, لكنه استطاع رغم افتقاره إلي الموهبة أن يملأ الفراغ الذي تركه عبدالدايم.
وعلي الرصيف المواجه راجع فريد نفسه: وأنواع الأدوية المستوردة التي كان يحتال للحصول عليها أيام مرض الزنجفلي, والخدمات المعقدة التي استطاع أن ينجزها بعد وفاة والده, لقد استطاع أن يسخر الكثيرين من أنسابه وأصهاره لتحقيق مآربه.
وأسرع, يلحق بصابر قبل أن يختفي عن ناظره في الزحام وتساءل: لماذا اختار( اللعين) هذا السرداب الملتوي كمن يشعر بأنه مطارد, أم هو يقصد المدخل الخلفي للفندق الأنيق.
وفي زحام السرداب الملتوي, إذا به يحاذي صابر كتفا إلي كتف, فعبرا سويا السرداب إلي الطريق الممتد حيث الأضواء المتناثرة لميدان الفسقية, وعاد يحاور نفسه: من كان يستطيع أن يستخلص لها نصيبا من المعاش وأن يحول السلاملك إلي ملكيتها الخاصة كما فعل ذلك الجلف؟
وأبطأ الخطي عندما تحولت أفكاره إلي مرض والده, فقد أسقط في يدهم جميعا, أما لماذا يمرض أكبر مصوري العصر بذلك الشلل الذي أصاب شقة الأيمن ويده التي انجز بها أشهر أعماله, فهو السؤال الذي أعجزهم الرد عليه, وتذكر أن والدته لم تجرؤ علي اتهام ضرتها بشتي التهم ألا بعد أن أصبح موت الزنجفلي محققا, وتذكر كيف باتت توقد صدره وتوقد نار غيرته ليلة أثر ليلة وكأنها تدفعه إلي شر لا نجاة له منه.
ورأي صابر يحاذر في عبور الشارع الجانبي الغاص بدكاكين إصلاح السيارات وورش التشحيم, وكمن خشي أن يتعرف عليه أحد الأسطوات, أدار ظهره إلي فانوس النور الخافت الضوء, ولم يصدق عقله حين رأي المبعوث يقصد رأسا إلي الخمارة علي الرصيف المواجه: تري ان كان صابر سيدخل الوكر الذي يطلق عليه خمارة ستامبيلوس؟! ورأي المبعوث الأنيق يختفي داخل الخمارة فتساءل: ان كان سينتهي به الأمر إلي اقتحام الخمارة خلفه؟, لقد كان يغشي هذه الخمارة أيام بدأ هوايته لميكانيكا السيارات, أيام كان يتعلم عند الخواجة جورج علي يدي الأسطي سعد كاديلاك والمعلم زغلول وذلك قبل أن ينتقل إلي مصنع البيجو فهل ستنتهي مغامرته الليلة بالعودة الي الخواجة والأسطوات؟, ولكن ماذا يفعل مبعوث أنيق في الخمارة التي كان يؤمها الفنانون المتطرفون, وهي الآن وكر الميكانيكية والسمكرية؟
وتذكر الملحوس أحمد رزق الزبون الدائم للخواجة ستامبيلوس الزبون الذي طبقت شهرته الآفاق, والسكير الذي يشاع أنه شرب هو ونديمه المقدس ميخائيل نصف ما غش الخواجة ستامبيلوس من خمر منذ أنشئت هذه الخمارة.
وتصور فريد كيف سيكون اللقاء بينه وبين خادم البار السمين أنطونيادس, ولكن يتخلف علي انطونيادس من الزبائن الدائمين والعابرين منذ أيام الحرب الأولي ما لا تستطيع ذاكرته أن تحفظ ملامحهم, ولكنه منذ الشتاء الذي ترك فيه الدراسة( علي يدي والده) يعرفه كل صناع الورش وعمال الدكاكين المنتشرة في هذا الشارع, وتزحزح بعيدا عن ضوء فانوس الطريق, وعبر الشارع وقرر أن يكون حذرا عند اقتحام الخمارة, فهو سيبدأ بالجلوس إلي البار, فحتي لو عرفه انطونيادس فلن يشكل ذلك خطرا علي مهمته, وألقي بنظره من خلال الباب المتداعي, ومن خلال ظلال الطرقة رأي البار خاليا وانطونيادس يضع فوق عينيه عويناته القديمة وهو يقرأ جريدة المساء( جريدة الفوس), وقبل أن يتجه إلي رخامة البار ألقي نظرة إلي يمينه وأخري إلي يساره حيث الموائد تحتل أركان الخمارة, فإذا بالمبعوث قد جلس علي مائدة إلي جوار النافذة المطلة علي الطريق في الركن الأيمن من الخمارة..
وأتجه فريد إلي انطونيادس مباشرة, ثم اعتلي أحد المقاعد وأخرج غليونه وكيس الطباق, ودون أن يحيي انطونيادس طلب زجاجة من البيرة, ورفع خادم البار رأسه الأصلع ونظرة إلي فريد نظرة جانبية تخلو من الترحيب ونحي جريدة المساء جانبا وهز جسده السمين واتجه نحو ثلاجة الزجاجات ماركة ستيلا.
وذايل فريد المقعد الأوسط وجلس علي المقعد بأقصي البار حتي يكون قريبا من المائدة التي جلس إليها صابر.
وأقبل الجرسون سافرتي العجوز الذي فقد كل أسنانه واستند إلي جواره علي رخامة البار, ولم يكن يخشي أن يكتشف سافرتي شخصيته, فالأمر بالنسبة لهذا اليوناني سواء, وكمن أزعجه هدوء المكان تطلع إلي ساعة معصمه, فأدرك أن الوقت مازال مبكرا علي حضور أحمد رزق وهو يسحب نديمه المقدس ميخائيل.
وتذكر مداعبات هذين العجوزين مع باقي الزبائن, فهما يتعاركان مثل شقيين صغيرين فيلقي أحدهما بنفسه علي مائدة الفنانين فيجذبه الآخر فيحتمي بمائدة الميكانيكيين فيناشده نديمه القرب والوصال ويتدخل من تروقهم اللعبة بما يخطر علي بالهم من الموشحات والطقاطيق أو ببذل الأنخاب حتي تصخب الخمارة بضحكات من ألف اللعبة ومن يشاهد لأول مرة.
وتذكر ليلة اشتبك رزق مع ثلة الفنانين فلماذا تغلبوا عليه في الهزر والسخرية, فقد مال إليه علي البار فلعن نديمه وظهيره المقدس ميخائيل وطلب إليه أن يثأر له من ذوي المبادئ الهدامة, فلماذا طيب خاطره وقدم له الشراب فقد نادمه في تلك الليلة وتذكر أبياتا هزلية من فاحش السباب وأخذ يهجو بها المتطرفين الذين استخفوا بعقل المخرف ميخائيل, وتأمل وسائله التنكرية في المرآة ثم همس: كانت الفرنسية تريد أن تختار لي الثياب وتنسق شعري حتي أصبح مثل بلدياتها ديلاكروا, يا لسخفها عندما كانت تغرد بغنتها الفرنسية هالو ديلاكروا أو لن يلبث فريد أن يصبح ديلاكروا مصر..!!, وسخر من نفسه وهو يتساءل: هل ذهبت إليها في ذلك اليوم مرتديا عفريتة التشحيم المقطرنة لتشاهد مرمطون مصر؟!.
وتعجب من أمر من يترك التروس والمحاور ويعشق الألوان والأشكال, وتأمل الشارب والعوينات وما ترك من شعيرات لحيته ثم همس: ولماذا الرسم بالذات ولماذا لا أصلح للتمثيل ولا أحد يعرفني بهذه الحيل التنكرية؟؟, ووضع انطونيادس أمامه زجاجة البيرة وراح ينسق حولها أطباق الطماطم والخيار, ولكن فريد نسي كل شيء وطفق يتأمل الشبح الذي ظهر فجأة في مرآة البار وكأنه يبرز من ظلال لوحة غبشت ألوانها القرون المتوالية.
وسقط ضوء المصباح الكهربائي الذي يبرز من داخل أكمام زهرة زجاجية يرجع طراز صنعها إلي بداية اختراع الكهرباء, فسقط نور المصباح علي وجه الشبح فعرف فيه فريد ملامح وجه عبدالدايم الرسام تلميذ والده عرفه رغم ما حل به من هزال وكيف لا يعرفه وقد كان أقربهم اليه, ورأي عبدالدايم يلتفت يمنة ويسرة فتساءل: تري هل يلتقي العشيقان مصادفة أم حسب موعد سابق؟, وغادر سافرتي رخامة البار وجر قدميه إلي حيث استقر تلميذ الزنجفلي, ورآه يمسح المائدة ثم يميل برأسه في انتظار الأوامر.
ولما اكتشف أن عبدالدايم وصابر سيتناولان نفس الشراب فقد كان لذلك دلالة أذهلته فجعلته يجرع أول رشفة من شرابه, وتشاغل عن بائع اليانصيب الذي يتسمر كالتمثال عند رأس رواد الحانة, وبينما راح يهش بائع اليانصيب رأي تلميذي والده يتناولان الأنخاب, وتسللت الي أذنيه مقاطع من الصوت الصداح( صوت صابر) فقال لنفسه: بهذه النبرات سرح بأبي وبين التوسل والتزلف جعل العجوز يدافع عنه حتي عين معيدا, ثم انتزع له احدي البعثات انتزاعا من بين من هم أجدر منه بالسفر؟
لقد سمع والده يتحدث عن جدارة عبدالدايم في كل مرة عاده في مرضه حتي ثقل لسانه, فهل يستطيع عبدالدايم أن يجابهه بأنه كان أجدر منه بالبعثة, وتذكر أنهم أخفوا عن والده خبر اعتقال عبدالدايم مع المتطرفين حتي لايتأثر الرجل الذي قضي عمره مستغرقا في الفن محتقرا للسياسة ولكنهم بعد أن لفقوا لعبد الدايم شتي الأسفار, فقد نقل إليه الخبر هذا الزنيم( صابر) فكاد الخبر يعجل بالقضاء علي الزنجفلي وبدا من ساق له الخبر كمن يريد فعلا أن يعجل بقضائه, وقبل أن يجد ردا علي تساؤلاته ظهر زعيم المترنحين في غبش المرآة, ورآه فريد يعبر من المدخل إلي نور البار, انه أحمد رزق وقد وضع فوق رأسه طاقية ذات شكل كاريكاتيري, فهي من الصوف الأحمر بلون الطربوش لكنها ذات شرابة مكورة تتوج قمتها, وارتفعت بعض الصيحات والتحيات تحيي مقدم احمد رزق, واكتشف فريد انه يقبل بدون نديمه المقدس ميخائيل, وعندما تفحصه زعيم المترنحين فقد حياه تحية من يبدأون الغواية ثم سار يتفحص الجلوس علي الموائد الأخري, ووقف عند المائدة المجاورة, ثم مال بجذعه إلي الأمام كمن يراجع ذاكرته, ثم صاح متهللا حيث تعرف علي عبد الدايم, ورآهما يتبادلان العناق, ثم جلس رزق لحظة ليبث الرسام أشجانه بينما صمت المبعوث علي مضض.
واخترقت مسامع فريد سباب الخواجة جورج وصوت الأسطي سعد كاديلاك وهما يقتحمان الخمارة, ومن خلال تنكره ألقي نظرة جانبية علي أسطوات الميكانيكا وهم يلتقون بأحمد رزق, وبعد ان هدأت ضجة اللقاء ذهب الأسطوات الي مائدتهم بسراديب الخمارة, وارتفع صوت احمد رزق وهو يشاكس عبدالدايم تارة ويهاجمه تارة أخري, ولم يدر لماذا استشهد به العجوز في أي قضية زج به, وقد أخذ يشير اليه تارة والي عبدالدايم تارة أخري, ولم يسمع ماذا قال له تلميذ والده فإذا به يقفز من علي مقعده وهو يصيح: يطن فينوس تنيلت بالنيلة وأمست الدنيا كحلا لغيابه.
وجذب العجوز فريدا من ذراعه ثم أشار الي عبدالدايم بإصبع الاتهام وهو يصيح: قل له كيف طربنا في غياب العصبة المكفهرة وكيف راق لنا الشراب بعد أن خلت الخمارة من التتار.
وانزلق فريد من علي مقعده وأخذ يطيب خاطر العجوز فإذا به بين عبدالدايم وصابر وسمع عبدالدايم يقول: يعبث رغم ما به من لوعة فماذا سيفعل بعد أن يمسي سكران طينة..!! وقال فريد انه يجد في طرافة العجوز وهذره ما ينسيه كرب الدنيا, ولم يفلت الفرصة فأقسم أن يكون شربهم ولهوهم علي حسابه الليلة, وصفق فريد براحتيه وطلب زجاجة من الويسكي, وكمن لم يصدق رزق أذنيه انطلق إلي الموائد الأخري وهو يسخر من فريد, فأشار إليه وصاح: حتي أنت ياسلفادور دالي.
وبينما ضحك ثلاثتهم من العجوز, مال فريد الي مائدة تلميذي والده ثم جلس علي المقعد المجاور لصابر, وردد صابر أن العجوز وصفه بسلفادور دالي, ثم سأل عبدالدايم مشيرا الي فريد: ان كان ناشئا يقلد الفنان الشهير.
ولما كان واجب التعارف يقضي أن يعتذر فريد عن تطفله, فقد قال: انه من فرط عشقه للفنان الغريب الأطوار يقلده رغم انه يعمل بالتجارة, وشعر بتنبه صابر الي كلامه فأشعل غليونه ليخفي اضطرابه وليكون مفهوما لكليهما أنه لن يغادر مجلسهما الي البار, حيث كان يشرب, وسأله صابر: ان كانت اللوحات الفنية ايضا ضمن تجارته.
ولقف فريد الخيط حتي لاينقطع الأخذ والرد مع المعيد فقال: انه اشتري لوحات بعدة آلاف تبني عمارة ولكنه مع ذلك لايشعر بالخسارة فثمنها يتضاعف بمرور الوقت, وأردف صابر وهو يشعل لفافة: عجبي.. مازال الفن سرا غامضا.. اذا بينما دفع بالأستاذ الي السجن, إذا به يدفع بي الي فرنسا, بينما تدفع أنت فيه عدة آلاف من الجنيهات. وجعلتهم اشتقاقات صابر اللغوية يقهقهون في ألفة, مما شجع فريد الي النفاذ الي غرضه الحقيقي فقال: تروح الآلاف وتجيء.. أما الفن.
عندئذ تطلع عبدالدايم الي فريد بنظرة كادت تسقط أدواته التذكارية, لكنه قال مشيرا الي صابر: الحق انه يجشم نفسه الجلوس بخمارة عمك رزق مع إنه منطلق إلي باريس مع قوم لا يلوون علي شيء.
وسمع صابر يجيب قائلا: أتذكر انك تتمني لو تنطلق معنا لاتلوي علي شيء.. ربما إني أتلهف علي ما في السفر من فوائد, ولكن إلهامي وحواري الحقيقي هو في مسقط رأسي في الحقيقة, ولم تخف لهجة السخرية التي أجاب بها صابر: كان أستاذه يقول لقد ظل عبدالدايم يحب الفن قبل ان يتعرف علي الفنانين.
وأدرك فريد ان تلميذي والده يعودان الي ما بدآ من حديث قبل أن يقطع عليهما احمد رزق حوارهما, فاطمأن إلي أن أحدا منهما لم يشك في أنه غريب لايعرفه, لم يلتق به من قبل, وخشي من صمت عبدالدايم ان ينطلق المبعوث دون ان يكشف من أمره ما تجشم من عناء المطاردة, لذلك أمسك بالجرسون وسأله لماذا لم يحضر زجاجة الويسكي, واعتذر سافرتي بأنه ظن الطلب احدي نكات أحمد رزق, أما إذا كان الطلب جادا فليس أحب إلي قلبه قبل أن يموت أن يلحق به زبون يملك ثمن زجاجة من الويسكي.
البقية الاسبوع القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.