للأدب في بلدنا دور كبير في فهم مسيرتنا التاريخية وصيرورتنا الاجتماعية, وأظن أن الرواية التاريخية ساهمت بشكل كبير في فهم تاريخنا الحديث والمعاصر, بل وفي تكوين الوعي التاريخي للجماهير. ومع اعترافي بأن الأصل هو البحث والدراسة إلا أنني أعتقد أن للأدب دورا, فرب رواية كانت أكثر عمقا وأدق كشفا لمجتمعنا من عديد من الأبحاث التقليدية. فإن أردت دليلا, أنظر الي روايات محفوظ والسباعي وعبدالقدوس والسحار والقعيد والغيطاني وأصلان وغيرهم كثيرين ممن كشفت أعمالهم الأدبية أغطية كثيرة عن المجتمع المصري, وصورته بكتابة ثلاثية الأبعاد تجاوزت في بعض الأحيان إنجازات العمل البحثي أو علي الأقل أعطته روحا ومثلا. و فيوليت والبكباشي هي أحدث الروايات التاريخية التي صدرت بالقاهرة عن دار هفن للنشر, وهي من تأليف روائي جديد هو الصديق الأستاذ عمرو كمال حمودة, الذي عرفناه باحثا متميزا وها نحن نكتشفه كروائي موهوب. والرواية مثل روايات كثيرة قبلها تتحدث عن ثورة يوليو, لكن الجديد فيها أنها تتناول الحياة الداخلية لرجال الصف الثاني من ضباط الثورة, هؤلاء الذين لم نعرف عنهم الكثير رغم كوننا نعرف أنهم كانوا موجودين في كل مرافق ومفاصل الحكم علي مدي مايقرب من الأعوام العشرين, ومن هؤلاء تأتي الشخصية الرئيسة في الرواية, إنه البكباشي يوسف عبدالمنعم. والبكباشي كان أحد الضباط الشبان الذين آلمتهم نكبة1948 ثم أوجعهم حريق القاهرة فكان ذلك طريق إنضمامه للثورة حيث كان لموقعه الوظيفي وحماسه الشديد للثأر أكبر الأثر في مكانته في السلطة عقب نجاح الثورة. غير أن الإمكانات الشخصية للبكباشي كانت مختلفة, فهو يحب الحركة والمتعة الجسدية ويفضلها علي المعرفة, بل أن طريقه الي الجيش جاء عبر تفضيله الرياضة البدنية علي القراءة. وهو لايهتم بالحلول طويلة الأمد بل يجنح للحسم وتوجيه الضربات السريعة للخصم, راجل بتاع تكتيك درجة أولي. ومنذ أن قامت الثورة كان البكباشي يجلس منتظرا المكافآت المناسبة للدور الذي قام به عشية إنطلاقها, كانت المكافآت تأتيه دون أن يطلب, بل وكانت تأتيه من طرفي الحكم المتصارعين, الرئيس والمشير. لم يكن يسأل بل كان ينفذ مايطلب منه عن طيب خاطر الي أن اكتشف أن بعض زملائه كانوا يستغلونه في أفعال مشينة كان هو بطبعه يترفع عن فعلها. فالبكباشي علي كل حال كان به جانب ورع مثلما كان لديه جانب وطني لم يكتشفه بحق إلا أثناء اشتراكه في معركة إنشاء حائط الصواريخ بعد النكسة. وطوال حياة البكباشي لم يشترك في عمل عام بإخلاص إلا لحظة الثورة ووقت حرب الاستنزاف, أما ما بينهما فهو ينفذ مايحافظ علي بقاء الثورة وبقائه في السلطة. ومن ذلك اختياره لتأثيث أحد الأماكن في القاهرة تحسبا لثورة مضادة وهناك يلتقي بفيوليت التي تصبح محور حياته فيما تبقي من العمر. تنقل البكباشي داخل جهاز الدولة من موقع الي آخر دون أن تجد له إنجازا اللهم إلا ما أحدثه من تخريب في احدي المؤسسات التجارية. ثم تتحول حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية بين الزوجة والابناء والعشيقة وزوج العشيقة الي مايشبه الدراما السخيفة التي تمتد انعكاساتها من الخاص الي العام. ولايدرك البكباشي ولا زملاؤه أن النتيجة الحتمية هي أنهم مقبلون علي كارثة, فعشية حرب1967 كان البكباشي متأكدا أنهم منتصرون.. وكانت الصدمة مروعة. نهض البكباشي وشارك مع كل من شارك في إعادة بناء الجيش والدولة لكنه لم يدرك أن آثار النكسة ستستمر وأن مابعد عبدالناصر يختلف عما قبله. واضطر أن يكتب الي الرئيس الجديد بطلب معاش وزير مكافأة لما قدمه من خدمات للثورة. فرح بانتصار أكتوبر لكنه لم يستطع الإبقاء علي زواجه أو قربه لأبنائه وحتي فيوليت العشيقة رفضت بعد أن تزوجها أن تصاحبه الي إحدي دول الخليج حيث عمله الجديد. وأجمل ما في رواية فيوليت والبكباشي هو اللغة البسيطة والعميقة في آن واحد, فالمؤلف استطاع ان يصل الي قارئه بسهولة وعمق, واستطاع ان ينقل الي القاريء تعاطفه مع شخصياته جميعا بما في ذلك أسوأها, زوج العشيقة. وأصعب مافي الرواية هي قدرة المؤلف علي وصف الدخائل النفسية والوجدانية لمثل هذه الشخصيات السطحية بدءا من البكباشي وانتهاء ب أم فتحي و عم كامل. فعلي الرغم من سكون الأحداث في بعض الاحيان لكون الشخصيات تتحرك في مجال الحياة اليومية بأحداثها الرتيبة إلا أن المؤلف استطاع الاحتفاظ بقارئه يقظا لايطوله الملل بل يزداد شغفا بتفاصيل حياة البكباشي وعلاقته بفيوليت. لقد كسبت المكتبة المصرية عملا روائياي بديعاي ألقي ضوءا علي فترة مهمة من تاريخنا فأنار منطقة يكتنفها كثير من الظلال. أما الحركة الأدبية فقد كسبت أديبا رائعا ننتظر منه اسهامات مقبلة.