طوال الشهور الثلاثة الماضية كانت اروقة الحكم ومعها اجهزة الاستخبارات المدنية والعسكرية منكبة علي تعديل وثيقة الامن القومي تمهيدا لاقرارها, وكان طبيعيا ان تشهد العاصمة نقاشات موسعة للوصول الي صياغة لبنود تلك الوثيقة التي ستكون عنوان السياسة الامنية خلال الخمس سنوات القادمة, وبالفعل طرحت في صورتها النهائية علي مجلس الامن القومي برئاسة رئيس الجمهورية عبد الله جول في جلسته الدورية والتي تعقد كل شهرين وبعد سجال استمر خمس ساعات كاملة تم اعتمادها. المهم ان قراءة اولية لها خلصت الي نتيجة مؤداها وهي ان تعديلات جوهرية طرأت عكست بدورها التوجه المغاير الي حد ما لتركيا متمثلا في حكومة العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان وبما ان الاخير سبق وعاني الامرين من مصطلح التيارات الرجعية بيد انه وصم به قبل خمس عشرة سنة, وبسببه اجبر علي ترك منصبه كعمدة منتخب لمدينة اسطنبول فقد كان لافتا شطب هذا المصطلح الفضفاض من الوثيقة باعتباره لايمثل تهديدا داخليا وقصره علي التنظيمات المتطرفة, يأتي هذا التطور بعد عقود طويلة كان تعبير التيارات الرجعية يتصدر وثيقة الامن القومي للبلاد والتي تعاد صياغتها كل خمس سنوات بما يتلاءم مع التطورات الداخلية والخارجية, فضلا علي انه كان احد الاسباب الاساسية التي تم بمقتضاها اغلاق العديد من الاحزاب السياسية ذات الخلفيات الاسلامية في مقدمتها الرفاه ثم الفضيلة وكلاهما تم تأسيسهما من قبل نجم الدين اربكان رئيس الحكومة الاسبق, بالاضافة الي منع شخصيات بارزة من العمل السياسي للسبب نفسه, كما استخدم ذاك التعبير في تحذير قوي سياسية لوجود عناصر بها مناوئة للقيم العلمانية وهو ما حدث قبل سنتين بالنسبة للعدالة والتنمية الحاكم والذي كاد يغلق لوجود عناصر موصومة بالرجعية بمن فيها هو نفسه. ولم يكن لهذا المنحي ان يتصاعد ويتبلور الا مع الاحساس المتنامي لدي صانعي القرار في البلاد بان وجودهم يتسع في الشارع التركي وانه صار مستقرا عززه تصويت الشعب بنسبة58% علي التعديلات الدستورية في استفتاء الثاني عشر من سبتمبر الماضي والحق ان نفوذ الحزب الحاكم ذي الخلفيات الدينية لم يعد خافيا علي القاصي والداني فصور اردوغان باتت تنافس صور مؤسس الجمهورية مصطفي كمال اتاتورك ونادرا ان يمر يوم لايظهر فيه علي الجمهور وذلك من خلال شاشات التلفاز الحكومي والخاص معا. علي صعيد معضلات الخارج وما تمثله من مخاطر علي امن البلاد والعباد تم حذف اسماء بلدان كل من روسيا واليونان والعراق وايران من القائمة السوداء التي تضم الدول الاكبر تهديدا علي الاناضول, وطالب المجلس بضرورة تعظيم العلاقات مع هذه الدول انطلاقا من اواصر الصداقة والتعاون معها, وقد يكون الامر مفهوما بالنسبة لروسيا التي قفز حجم علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع تركيا الي ارقام تجاوزت الثلاثين مليار دولار, ناهيك عن عزم الجارة العدو السابق بتدشين اول مفاعل نووي تركي للاغراض السلمية, كذلك الامر ذاته بالنسبة لليونان فالاخيرة ومنذ سنوات وهناك مناخ اتسم بالايجابية عكسته زيارات متبادلة بين العاصمتين اثينا وانقرة صحيح ان معضلات كقبرص تقف حائلا نحو المزيد من التقدم الا ان هذا لايعد مبررا او مقبولا بان توضع بلاد الاغريق في خانة الاعداء. واذا انتقلنا الي الهلال الخصيب سنجد معطيات مختلفة ومغايرة تحتم التعامل والتكتل معه في مواجهة الارهاب خاصة في وجود تفهم من قبل القائمين علي السلطة المركزية ببغداد او حتي شمال العراق علي خطورة النشاطات الانفصالية التابعة لمنظمة حزب العمال الكردستاني والتي تتخذ مناطق علي الحدود بين البلدين كنقاط انطلاق ارهابية ضد الجنود الاتراك وكذا المنشآت الحيوية بالمدن التركية الرئيسية, لكن الملف هو ايران وهنا تتجلي سطوة العدالة الحاكم في جعل العلاقات مع طهران في صدر اولويات البلاد الخارجية دون حساب مخاطر ذلك علي مصالح الاناضول الغرب الاوروبي عامة والولايات المتحدةالامريكية خاصة. يذكر ان هذا هو الاجتماع الاول الذي يحضره رئيس الاركان التركي الجديد اشك كوشنار وقادة افرع القوات المسلحة الذين تم تعيينهم في حركة الترقيات والتعيينات التي جرت في شهر اغسطس الماضي.