يعد الفقر الثقافي السمة الأكثر لفتاً للأنظار، في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة التي أعلنتها إدارة بوش الثلاثاء قبل الماضي. فالافتقار التام إلي التماسك، والصياغة القائمة علي استخدام "الأكليشيهات" والعبارات النمطية، تعطي كلها الانطباع بأن "ستيفن هادلي"، مستشار الأمن القومي الأمريكي، ومن شاركوا معه في صياغة الوثيقة قد استقوا عباراتها من مخزون الخطاب البيروقراطي العقيم، مما يشي باحتقارهم التام لأعضاء الكونجرس الموجهة إليهم هذه الوثيقة في الأصل.كان من المفترض أن يعهد البيت الأبيض بأمر كتابة الوثيقة إلي معهد "أمريكان إنتربرايز" أو غيره من مراكز الأبحاث والدراسات "المحافظة" ذات الخبرة في إعداد مثل هذه الوثائق. وهذا لا يعني أن المرء كان سيتفق مع خلاصة تلك الوثيقة لو أن مركزاً رصيناً هو من قام بإعدادها ولكنه يعني أنه كان سيجد أمامه علي الأقل شيئاً متماسكاً كي يجادل بشأنه. ولكن حتي هذه الملاحظة تنطوي علي تناقض؛ لأنه حتي لو قام "معهد أمريكان إنتربرايز" بتقديم مثل هذه الاستراتيجية ذات الصياغة المتماسكة، فإنه لم يكن ليكون مخلصاً في تلك الحالة للسياسة الخارجية لإدارة بوش وهي عبارة عن خليط غير متناسق من أفكار "المحافظين الجدد" سيئة السمعة، و"الجيوبولتيكيات الكيسينجرية الجديدة". إن الغرض الوحيد الظاهر أمامنا لهذه الوثيقة هو توجيه المزيد من التهديدات لإيران، وبخلاف ذلك، فهي فارغة من المضمون، ومهينة للدول الأخري، وغير قابلة للتحقق منها علي الأقل من حيث نواياها المعلنة. فبعد الانتهاء من قراءتها لا يمكن لأي أمريكي أن يخرج منها بشيء سوي أن الهدف النهائي لأمريكا هو إنهاء الطغيان في العالم. أما القارئ الأجنبي فسيتولد عنده ردان للفعل: الأول، هو أن هذه الوثيقة لا يمكن أن تكون جادة. والثاني، هو أن تلك الوثيقة حتي لو لم تكن جادة فإنه ينبغي أخذها علي محمل الجد، خصوصاً وأن الذين أعدوها قد قضوا ثلاثة أعوام مدمرة في مشروعهم العقيم داخل العراق، وبالتالي فإنه يمكن الافتراض بأنهم يمكن أن يكرروا الشيء نفسه مع إيران، والوثيقة الجديدة تعيد التأكيد علي مبدأ الحروب الاستباقية، وتقول بالحرف: "إننا مازلنا في السنوات الأولي من نضال طويل"، سيكون مثل الحرب الباردة. إن المرء لا يملك عندما يقرأ ذلك سوي أن يتساءل: هل معني ذلك أن من قاموا بصياغة الوثيقة يتخيلون أن صراعنا مع إيران سيستمر خمسين عاماً مثلما استمرت الحرب الباردة أم ماذا؟ أم هل يتخيلون أن صراعنا سيستمر لهذه الفترة مع "أبومصعب الزرقاوي" في الصحراء العراقية، أو مع أسامة بن لادن في الكهف الذي يقبع فيه بمنطقة وزيرستان؟ أم أن الصراع سيستمر طوال هذه المدة أيضاً مع أولئك الشباب المسلمين المحمومين والمتعصبين الذين يعيشون في "الجيتوهات" الأوروبية والذين تبرأت منهم الجاليات المهاجرة التي ينتمون إليها؟ لاشك أن الأمة الأمريكية العظيمة لديها أشياء أفضل يمكن أن تقوم بها خلال الخمسين عاماً القادمة. وفي الوقت الذي كان فيه "ستيفن هادلي" النائب السابق لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس يقوم بإعداد الاستراتيجية الجديدة، أو يكتب السطر الأخير فيها كانت "رايس" في زيارة لإندونيسيا من أجل "توسيع الشراكة الاستراتيجية" مع جاكرتا، وللتعبير عن اهتمام أمريكا بدعم إندونيسيا وبنائها كي تكون قوة عسكرية وتجارية كبري في شرق القارة الآسيوية، لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد. وقبل زيارتها إلي إندونيسيا بأيام، كانت "رايس" مع بوش في زيارة إلي الهند من أجل نفس المهمة وهي عقد شراكة استراتيجية من أجل مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في القارة. في كلمة لها أمام "معهد الدراسات الاستراتيجية" منذ ثلاث سنوات أدانت "رايس" سياسات "توازن القوي" ووصفتها بأنها "سياسات قد عفا عليها الزمن فضلاً عن أنها خطيرة". وفي بحر ثلاثة أسابيع من الآن، سيكون الرئيس الصيني "هو جينتاو" في البيت الأبيض لإجراء لقائه مع الرئيس بوش الذي تأجل طويلاً. ومن الممكن أن يعرض البيت الأبيض عليه كما عرض علي الهند وعلي إندونيسيا الدخول في شراكة استراتيجية بشرط أن ينفذ ما تطلبه منه استراتيجية الأمن القومي الأمريكيةالجديدة وهو: "أن تتخلي الصين عن طرائق التفكير والتصرف القديمة وتتخذ الخيارات الاستراتيجية الصحيحة بالنسبة لشعبها". وحتي يحين الوقت الذي تأخذ فيه الصين بهذه النصيحة، فإن الوثيقة تضيف بصيغة تهديدية أن الولاياتالمتحدة "ستقوم في الوقت نفسه بالتحوط لمواجهة جميع الاحتمالات الأخري". وبخلاف الصين فإن الوثيقة تقول لنا: "إن الولاياتالمتحدة اليوم لا يحتمل أن تواجه خطراً من ناحية دولة واحدة أشد من الخطر الذي ستواجهه من إيران"، وإنها لذلك "تحتفظ بالحق في اتخاذ عمل استباقي للدفاع عن نفسها حتي لو بقي عدم التأكد قائماً بشأن زمن ومكان الهجوم الذي قد يقوم به العدو"... أي هجوم؟ هجوم من إيران؟ وفي أي ظرف يمكن لإيران أن تقوم بهجوم علي الولاياتالمتحدة حتي لو افترضنا أنها امتلكت أسلحة نووية. وفي خاتمة الوثيقة هناك كوريا الشمالية التي تفترض الوثيقة أنها تمتلك أسلحة نووية بالفعل. والوثيقة تصدر أمراً لكوريا الشمالية بأن "تقدم الحرية لشعبها" كما تحذر نظامها بأن الولاياتالمتحدة سوف "تدافع عن نفسها ضد التأثيرات المضادة لسلوكها السيئ". وستلاحظ الحكومة الإيرانية في طهران أن هذا الجزء الخاص بكوريا الشمالية من الوثيقة لم يرد به أي ذكر ل"العمل الاستباقي" كاتب ومحلل سياسي أمريكي