ما هي إلا أيام معدودة حتي تتضح حصيلة جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش الشرق أوسطية، الأولي والأخيرة طيلة ولايتين رئاسيتين، والتي ستقوده من إسرائيل الدولة اليهودية ، (حسب التوصيف الذي تطوّع باستخدامه وهو بعدُ علي مدرّج مطار بن غوريون، فأدهش مستضيفيه الإسرائيليين أنفسهم قبل الآخرين)، وتنتهي به في مصر (غير المرضيّ عنها في الكونغرس هذه الأيام، بسبب قلّة احتراسها إزاء الانفاق التي تربط غزّة بأرض الكنانة)، بعد المرور علي الكويت والبحرين والإمارات، فالمحطة الثانية الأهمّ بعد إسرائيل: السعودية، مربط الفرس الأولي بالمعني البلاغي، وربما اللوجستي والمالي والعسكري تالياً في أيّ تخطيط عسكري أمريكي ضدّ إيران. والحال أنها حصيلة لا تلوح هزيلة وفق معايير ما زرعته هذه الإدارة في المنطقة، وما يتوجب أن تحصده استطراداً، فحسب؛ بل هي في الأصل لا تزمع تحقيق اختراقات هائلة وفق نصائح البيت الأبيض إياه، كما أنها لن تؤدي الي نتائج هائلة كما حرص مستشار بوش لشؤون الأمن القومي، ستيفن هادلي، علي التشديد بلسانه شخصياً. وقد يكون هذا كلّه صحيحاً، ومنتظَراً تماماً، في ما يخصّ الشطر الإسرائيلي الفلسطيني، سيّما ملفّات الوضع النهائي والمستوطنات والقدس ومتابعة توصيات مؤتمر أنابوليس، ومن الجليّ أن بوش لم يأتِ للخوض في تفاصيل هذه القضايا الشائكة في الأساس، أو الخروج من متاهاتها بأيّة نتائج ملموسة. كذلك ليس من المرجح أن تنطوي جولته علي فتح ملفات من طراز آخر، حقوق الإنسان والديمقراطية والإصلاح السياسي، في السعودية أو مصر، رغم أنها كانت وتظلّ في موقع الصدارة من ترسانة الخطاب الرسمي العقائدي لهذه الإدارة، فالكلام شيء والسياسة الفعلية شيء آخر مختلف وغير متطابق بالضرورة. فهل تكون الحصيلة هزيلة بصدد واحد من كبري غايات الزيارة، أيّ تلمس أو حتي التوصّل إلي صياغة سياسة احتواء جديدة متعددة المستويات ضدّ إيران، تكون الدول العربية التي زارها بوش منخرطة فيها، عاملة وفاعلة؟ وفي كلّ حال، ودون الانزلاق إلي حشد المعطيات والمعطيات المضادة حول احتمال أو استحالة توجيه ضربة عسكرية أمريكية قاصمة لإيران، وهذه رياضة تنتهي إلي الرجم بالغيب علي نحو أو آخر، فإنّ من الآمن أن يأخذ المرء علي محمل الجدّ سلسلة التقديرات التي يقول بها خبراء علي قدر كاف من المصداقية والرصانة، أو يسوقها محللّون سابقون في وكالة المخابرات المركزية (مثل كاثلين وبيل كريستيسن)، والتي تخلص إلي التالي: إذا كانت تلك الضربة ستقع لا محالة، فإنّ توقيتها المنطقي سوف يكون عند أجل ما قبيل حلول العام 2009 حين يكون بوش موشكاً علي تسليم البيت الأبيض إلي شاغله (شاغلته) الجديد(ة). سوف نري، إذاً، حصيلة جولة بوش في ما يخصّ مآلات الشطر الإيراني. ولكن، في الانتظار، يتذكّر المرء ما يُقال عادة، بحقّ غالباً، من إنّ جميع السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية يمكن أن تتبدّل مع تبديل الحرس في البيت الأبيض، ما عدا تلك السياسات العليا المعتمدة في الشرق الأوسط، أو تلك التي لا مناص من اعتمادها استناداً إلي مفاعيل سياسات سابقة لها أو عواقب تراكمت بسبب منها. صلابة هذا اليقين ليست مستمدة من افتراض يقول إنّ المعطيات في هذه المنطقة ثابتة ودائمة وأزلية، إذْ أنّ الشرق الأوسط كان وسوف يظلّ مثل غيره في الواقع خاضعاً لمبدأ التغيّر والتغيير، إنْ لم يكن بسبب قوانين التاريخ الذي يسير إلي أمام دائماً، فعلي الأقلّ لأنّ المنطقة واقعة في قلب التاريخ وغير منفصلة بالتالي عن حركة العالم المعاصر. صلابة اليقين مستمدة، أيضاً، من صلابة العمارة الكبري للدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث لا يلوح أنّ المصالح العليا الناظمة، والحاسمة، قد تبدّلت أو اتخذت أنساقاً جديدة تقتضي تعديل أو ترميم أو حتي إعادة تشييد تلك العمارة. ففي الماضي كانت العمارة تنهض علي ثلاث قواعد، تتفرّع عنها ركائز أخري أدني شأناً: 1) احتواء الخطر الشيوعي والحيلولة دون وصول الروس إلي المياه الدافئة كما كانت الخرافة تقول، و2) ضمان الهدوء التام علي جبهة النفط سواء لجهة تدفّق الخام أو انضباط أسعار البرميل، ثمّ 3) الحفاظ علي أمن الدولة العبرية. وبمعزل عن حقيقة أنّ انطواء صفحة الحرب الباردة لم يتكفّل باحتواء الإتحاد السوفييتي فقط، بل أنجز محو خرائطه من أطالس العالم، فإنّ العمليات العسكرية الكبري، عاصفة الصحراء وغزو أفغانستان والعراق، وضعت تحقيق الغرضين الثاني والثالث ضمن خيارات مباشرة ذات إشكالية مفتوحة علي كلّ التناقضات العاجلة أو الآجلة في قلب مقاربة إمبراطورية سياسية وعسكرية كونية. ولقد مضي زمن كان فيه دبلوماسي حاذق مثل وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر مضطراً إلي استخدام دبلوماسية المكوك بين القاهرة وتل أبيب ودمشق والرياض وعمّان لإنجاز اتفاق (أو اختراق إعجازي، كما سار الوصف آنذاك) حول تفصيل صغير وغير إعجازي البتة. ورغم أن الإتحاد السوفييتي كان آنذاك يملك سلّته الخاصة في المنطقة، فإن الوقائع اللاحقة أثبتت أن البيض تجمّع أخيراً في السلّة الأمريكية وحدها، حتي صار مالوفاً أن يأخذ السيناريو هذه الوجهة المتكررة المكرورة: لم تعد الولاياتالمتحدةالأمريكية بحاجة إلي ما هو أكثر من نصّ يتناوب علي تصحيحه نائب الرئيس، وزيرة الخارجية، مستشار الأمن القومي، وأحياناً وزير الدفاع؛ ثم يسطّر صيغته النهائية كاتب خُطَب الرئاسة مايكل جيرسون (أو هارلن ماكريني)! وتراجعه كاتمة أسرار الرئاسة كارين هيوز (قبل أن تنظر خلفها بغضب، وتستقيل)، فيصبح النصّ رؤيا و سياسة و خطّة سلام . ولِمَ لا، في نهاية المطاف! ثمة اختلال مريع في ميزان القوّة لصالح الدولة العبرية، مقابل أنظمة عربية شمولية واستبدادية وعاجزة وتابعة. الأسباب الأخري تبدأ من استقالة العالم طواعية أو اختياراً (الإتحاد الأوروبي، روسيا، الصين...)، ولا تنتهي عند تكريس مبدأ القطب الدولي الأوحد وبسط النفوذ الأمريكي علي نظام العلاقات الدولية وتعطيل ما تبقّي من أنساق عمل الشرعة الدولية في الأممالمتحدة عبر استخدام حقّ النقض تارة، أو شراء ذمم الحكومات بالمال والإعانات طوراً، دون التخلّي عن وسائل الضغط المتغايرة بين حين وآخر. ولقد شهد العالم، وسوف يشهد طيلة عقود كما يلوح، أنّ أية محاولة لكسر نظام القطب الواحد الامريكي (كما فعلت فرنسا جاك شيراك، مثلاً)، أو حتي المناورة فيه لأغراض انتهازية (كما فعل الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين) كانت تنقلب ضدّها في نهاية المطاف، فتعطي واشنطن مرونة إضافية في تدعيم النظام بدل كسره. وفي قلب السجلّ الكوني لعربدة الولاياتالمتحدة تظلّ العلاقة الأمريكية الإسرائيلية حجر زاوية راسخاً لا يتزحزح أو يتآكل، حيث يتمّ تبادل المنافع مثل الستراتيجيات، ويجري التضامن علي مبدأ نصرة الحليف ظالماً أو مظلوماً، وتبلغ أخلاقية الكيل بمكيالين مقاييس فاحشة فاضحة غير مسبوقة. وذات يوم بعيد في سنة 1796! حذّر الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الأمّة الأمريكية من الإنخراط في ارتباط عاطفي Paionate Aachment مع أية أمّة أخري، لأنّ ذلك النوع من الإنخراط سوف يخلق وهماً عامّاً بوجود مصلحة مشتركة، إذْ لا توجد مصلحة مشتركة بين الأمم . بعد أكثر من قرنين ارتأي جورج بول (الدبلوماسي المخضرم، وأحد أبرز مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي) أنّ هذا الإرتباط العاطفي بين الولاياتالمتحدة والدولة العبرية بلغ درجة فاقعة صارخة، تستدعي وضع كتاب كامل يرصد محطاتها منذ العام 1947. ولقد نصح بول الساسة الأمريكيين باعتماد مبدأ المثلّث في تمحيص العلاقة مع الدولة العبرية، بحيث يكون ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثانٍ هو المصلحة القومية الإسرائيلية، وضلع ثالث هو المصلحة القومية العربية. لكنّ الأيّام أثبتت، وما تزال، أنّ أضلاع المثلث الراهنة تسير علي نحو مختلف تماماً: ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثانٍ هو المصلحة القومية الاسرائيلية، وضلع ثالث هو... المصلحة القومية لليهود الأمريكيين! وذات يوم قريب، أواخر العام المنصرم 2007، كانت كارين هيوز (من موقع مسؤوليتها عن "الدبلوماسية العامة"، أي في عبارة أخري أوضح: أشكال البروباغاندا الهادفة إلي تحسين صورة الولاياتالمتحدة في ناظر الإنسانية)، قد تفاخرت بفضل أمريكا علي زعامات العالم المعاصر، فكشفت النقاب عن أنّ أكثر من 130 من المشاركين في برامجنا التأهيلية منذ العام 1945 صاروا زعماء في بلادهم، مثل رئيس وزراء بريطانيا الحالي غوردون براون، ورئيس فرنسا نيكولا ساركوزي ورئيس تركيا عبد الله غول ! ويصعب علي المرء أن يعزل فكرة التأهيل هذه، أياً كان المعني الملموس الذي تفضي إليه، بعيداً عن تلك العبارة الشهيرة التي أطلقها السناتور الأمريكي الشهير وليام فولبرايت قبل أكثر من أربعة عقود، وأثناء حرب فييتنام، عن وجود أمريكتَين وليس أمريكا واحدة: الأولي كريمة إنسانية، والثانية أنانية ضيّقة؛ واحدة ناقدة لذاتها، وأخري ممتدحة لصواب ذاتها؛ واحدة متعقلة، وأخري رومانسية؛ واحدة طيبة المزاج، وأخري كظيمة؛ واحدة تتساءل، وأخري تتكلم كالأساقفة؛ واحدة معتدلة، وأخري طافحة بالكثافة العاطفية؛ واحدة حكيمة، وأخري متغطرسة في استخدام القوّة العظمي.. . وبهدف الإقتداء بأيّ الأمريكتين جري (ويجري الآن أيضاً، ربما!) تأهيل أمثال براون وساركوزي وغول، إذا وضع المرء جانباً أمثال الأفغاني حامد كرزاي، والجورجي ميخائيل ساكشفيلي، والأذربيجاني حيدر علييف، والعراقي نوري المالكي...؟ وأيّ الأمريكتين يمثّل بوش في جولته الشرق أوسطية الراهنة، أو لعلّ الحريّ هو صياغة السؤال كما يلي: هل يمكن لهذا القيصر الجديد إلا أن يمثّل أمريكا الإمبريالية، الإمبراطورية، غازية الشعوب، الأنانية، الممتدحة لصواب ذاتها، المتغطرسة في استخدام موقع القوّة الكونية الأعظم؟ وهذا الموقع، ألا يبدو أشبه بترجيع لصورة روما في العالم القديم، حيث يتنقّل بوش وفي ركابه تلك الواجبات التي في ذمّة العالم تجاه روما المعاصرة، وتلك الحقوق الكونية التي يري قيصر القرن الواحد والعشرين أنّ من حقّ روما/واشنطن أن تتجاهلها تماماً (بينها، في المثال الأقرب عهداً، إعفاء الصناعة الأمريكية من التزامات بروتوكول كيوتو حول تخفيف غازات الإحتباس الحراري...)؟ ألا يسافر دون أن تكون في سلّة هواجسه تلك الإنقسامات الأخري حول الفقر المدقع والغني الفاحش، أو حول الشمال الصاعد إلي نعيم والجنوب الهابط إلي جحيم، أو حول قوّة عظمي تلوّث الكون بغازات صناعاتها وتطالب العالم بتأمين كمامة واقية لخياشيم الأمريكي الحسّاس... في آن! وفي العودة إلي غرض الجولة الأبرز، أي احتواء إيران، تعاقبت الإشارات من سالاي ميريدور سفير إسرائيل في واشنطن، إلي القيصر نفسه جورج بوش، مروراً بإيهود أولمرت وشمعون بيريس وكوندوليزا رايس، وكانت الرسالة صريحة واضحة: : لسنا نستثني أي خيار، وجميع الخيارات علي الطاولة. ما لا ينتظره المرء، في المقابل، هو أن تصدر إشارة أية إشارة! من السادة ملوك وأمراء ورؤساء أمصار واشنطن في العالم العربي، هؤلاء الذين يناسبهم تماماً سلوك الصمّ البكم العميٌ الذين لا يعقلون!