إذا ما أراد المرء استخلاص العبر, من خلال الردود التي صدرت عن نبلاء الضمير أخيرا, وحول قضية العلاقات بين مسيحيي مصر ومسلميها فإن أول ما يلفت نظره أن المسيحيين ليسوا هم الأنبا بيشوي كما أن المسلمين ليسوا هم. المفكر الإسلامي محمد سليم العوا.. وما فائدة التاريخ, إذا لم نستخلص منه العبر؟! من المؤسف أننا مضطرون إلي قول ما هو معرورف في تاريخنا وديننا, ولكن ماذا نفعل والبعض يريد أن يهدم وحدة هذا الوطن فقديما قالوا:الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ونحن نتساءل: من أوجدها اصلا, ومن المستفيد من كل ذلك؟.. السؤال مهم, ولكن الأهم الآن هو أن نعود إلي التاريخ, حتي يعرف الناس أن تاريخنا العربي والإسلامي ملئ بالتسامح العظيم بين المسلمين والمسيحيين, وأن ما يحدث الآن استثناء خارج عن نطاق التاريخ. هناك رأي بات يعتقد في صحته الكثيرون من مفكري وباحثي وكتاب الغرب, أن التاريخ الإسلامي لم يعرف الطائفية الدينية, بل عرف الوحدة الوطنية التي تعدت إطار التسامح والإخاء, إلي دائرة المشاركة في صنع المستقبل والمصير, فلم يحدث مثلا, أن فرض العرب المسلمون دينهم علي البلاد التي فتحوها, بل لم يفرضوا حتي لغتهم العربية فالمصريون لم يستخدموا اللغة العربية الا في اوائل القرن الرابع الهجري, وبقيت في كل البلاد المفتوحة غير مصر جماعات لم تغير ديانتها لأكثر من14 قرنا, وبقيت متمتعة بحرية ممارسة شعائرها في الغالب وأهل الذمة في اللغة تعني أهل العهد والأمان والضمان وكانت لأهل الذمة حقوق وواجبات, أما حقوقهم فهي الدفاع عنهم وحمايتهم ولهم الأمان علي نفوسهم وأموالهم, وكانوا لا يدفعون سوي الجزية, بينما معفون من الصدقات, وكانت الجزية تساوي ما يدفعه المسلم من زكاة, وتم اعفاء الأطفال والنساء والمساكين وذوي العاهات والرهبان أما ما عرف في بعض مراحل التاريخ الإسلامي من وجود ما يمكن أن نسميه الاضطهاد لأهل الذمة مع قلته وخفة تبعاته, فقد كان مرجعه إلي اسباب سياسية أو دوافع شخصية ولا يتحمل الدين بالطبع وزرها علي الإطلاق. ولابد ان يذكر في هذا السياق العهد الذي عقده الفاروق عمر بن الخطاب مع مسيحيي القدس كنموذج لموقف المسلمين من المسيحيين, ولا تعنينا التفاصيل كثيرا وحسبنا رأي العلامة( إميل درمنغم): أن التاريخ لم يرو أن المسلمين قتلوا شعبا وما دخول الناس افواجا في الإسلام إلا عن رغبة فيه, وهنا نذكر ان عمر لما دخل القدس فاتحا, أمر بألا يمس النصاري بسوء وبأن تترك لهم كنائسهم, وشمل البطريرك بكل رعاية ورفض الصلاة في الكنسية, خوفا من أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعة لتحويلها إلي المسجد. هكذا كان الفاروق, وهكذا كان المسلمون من بعده, فمثلا عندما تغلب التتار علي المسلمين في الشام, طلب ابن تيمية من قطلوشاه إطلاق سراح الأسري, فأطلق سراح المسلمين فقط فقال له ابن تيمية: لابد من افتكاك جميع من معك من النصاري واليهود, الذين هم أهل ذمتنا, ولا تدع أسيرا من أهل الملة ولا من أهل الذمة فأطلقهم.. وهذه الأمثلة قليل من كثير في التاريخ العربي الإسلامي, حتي إن هناك علماء من الغرب, اعترفوا بل وبهرهم هذا التسامح, ومنهم فيلسوف الحضارات العلامة( جوستاف لوبون) في كتابه حضارة العرب الذي قال: إن التاريخ لم يعرف أمة أرحم ولا أعدل وأكرم من العرب وأيضا قال العالم الفرنسي( جوتيه) في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم : لقد ثبت ان الفاتحين من العرب, كانوا علي غاية من فضيلة التسامح لم تكن متوقعة ممن يحملون دينا جديدا وما فكر العربي قط وهو في اشد حالات تحمسه لدينه الجديد, أن يطفئ بالدماء دينا منافسا لدينه. وقد قال العالم الألماني الشهير( آدم ميتنر) في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري تفاصيل أكثر دلالة علي هذا التسامح العظيم ومنها: إن من اعظم بواعث الاستغراب, كثرة عدد المسيحيين من رجال الأمر في الدول الإسلامية, وقد شوهد المسلم في بلاده يحكم عليه النصاري, وحدث في القرن الثالث الهجري أن كان النصاري وزراء حرب مرتين, وكان علي القواد المسلمين حماة الدين أن يقبلوا أيدي الوزير وينفذوا أمره, والدواوين كانت مليئة بالكتاب من النصاري. وطوال التاريخ الإسلامي, لم تتوقف فصول التسامح العظيم, ومنها تولي الكثير من النصاري تعليم أولاد الخلفاء والأمراء وقيادة جيوش المسلمين في بغداد والأندلس, وتولي منهم في عهد أكثر من خليفة, مناصب منها الوزير والكاتب والطبيب الأول في الدولة وفي هذا الاتجاه قال سير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلي الإسلام : إن وجود العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة, لهو خير شاهد علي ذلك التسامح.. ثم يقول في موضع آخر: ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعهم آمنين علي حياتهم وممتلكاتهم, ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم حرية التفكير الديني فإنهم تمتعوا خاصة في المدن بحالة من الرفاهية والرخاء, ويورد المؤلف دلائل كثيرة: منها أن معاوية ابن ابي سفيان قد توسع في توظيف المسيحيين, وحذا حذوه آخرون من البيت المالك الأموي وفي عهد الخليفة العباسي( المعتصم) اخوان مسيحيان أحدهما اسمه( سلمويه) كان يشغل منصب قريب الشبه من منصب الوزير في العهد الحديث, علي حين كان أخوه( ابراهيم) يحفظ خاتم الخليفة وخزانة بيوت الأموال في البلاط.. ويحدثنا نفس المؤلف أنه في عهد الخليفة( المعضد) كان عمر بن يوسف والي الانبار بالعراق مسيحيا, كما عهد الموفق وكان صاحب سلطان مطلق في عهد أخيه الخليفة( المعتمد) أمر تنظيم الجيش إلي مسيحي, واتخذ ابنه( المعضد) كاتبا نصرانيا وهو ملك بن الوليد وفي أواخر أيام المعتمد تولي نصراني آخر ديوان الجيش الذي حكم العراق وجنوب فارس. وفي عهد صلاح الدين الأيوبي وأثناء حصار ميناء( عكا) عام1190 م, تم تكليف المسيحي( عيسي العوام) لتوصيل ثلاثة اكياس بها الف الف دينار إلي حامية عكا, فربطها علي وسطه وسبح بها, ثم انقطعت اخباره فقلق عليه صلاح الدين إلي أن وجدوه غريقا وعلي وسطه اكياس الأموال فقال صلاح الدين: ما رؤي من أدي الأمانة في حال حياته وقد أداها بعد وفاته إلا هذا الرجل يقصد عيسي العوام. ومن السهل أن نطيل الاستشهادات من هذا النوع لكن ما ذكرناه يكفي للدلالة علي عظمة التسامح الإسلامي الذي كان مثار اعجاب وابهار علماء الغرب, فما احوجنا الآن مسلمين ومسيحيين إلي التمثل بهدي هذا التاريخ باعتباره البوصلة الوحيدة القادرة علي اعادتنا نحو غد يمثلنا باعتباره صانع الوعي بالذات ومنبع الفيض للمستقبل..