نعم.. مصر غير قابلة للفتنة, كما قال ما نشيت الأهرام المسائي قبل أيام, وتأكيدا له أقول مصر واحد صحيح لا يقبل القسمة علي اثنين, أحدهما مسلم والآخر مسيحي والتاريخ الثقافي والاجتماعي لمصر يؤكد هذه الحقيقة التي لم ولن تخطئها عين باحث أو دارس للمجتمع المصري. لسنا بحاجة للتذكرة بأن الدولة المصرية أقدم دولة في التاريخ الإنساني عرفت طوال الوقت تعدد الديانات, حتي أيام الدولة الفرعونية القديمة. وتسجل إحدي البرديات حوارا بين ابن وأبيه يسأل فيه الابن متعجبا: يا أبتاه أي إله أعبد.. ولكل قرية من قري المحروسة إله تعبده؟ ليجيب الأب ليس المهم أي إله تعبد, لكن المهم أن تلتزم بالتعاليم والمبادئ. حدثني عن فحوي هذه البردية منذ عدة سنوات الدكتور حجاجي إبراهيم أستاذ الآثار بجامعة طنطا, في سياق نقاش مطول عن الدين في حياة المصريين, وخلصنا إلي تحليل لمضمون ذلك الحوار بين الأب وابنه مفاده أن التعايش مع تعدد الديانات كان سمة مميزة للمصريين منذ آلاف السنين, وأن هذا التعدد لم يكن في يوم من الأيام مدعاة لتقسيمهم لطوائف أو ملل, أو دافعا للتقاتل لاختلاف العقائد. كان ذلك لا يقود إلا لحقيقة واحدة تقول إن المصري أدرك منذ الأزل معني الدولة, وقيمة الانتماء للأرض والوطن, وأنه لم يشرك قط بذلك المعني بإعلاء الانتماء لأي عقيدة علي حساب الدولة, ولا أذكر أن وقائع التاريخ تشير إلي نشوب حروب أهلية بين المصريين كان الدين يقف في خلفيتها, بل إن مصر بحكم موقعها الجغرافي شهدت هجرات كثيرة ومتعددة لأعراق وإثنيات أخري, ومع ذلك لم يحدث أن أصرت جماعة من الوافدين علي تمييز نفسها باسم بلدها الأصلي, لا لشيء إلا لأن الثقافة المصرية تمتاز عن غيرها من الثقافات بقدرتها علي إذابة واستيعاب الفوارق الحادة بين كل من يسكن أرضها ليصير الجميع بلا استثناء مصريون, غير أن مكمن عبقرية تلك الثقافة أن عملية الإذابة تلك تحتفظ بالتنوع الذي يثري الحياة ويغنيها بالألوان الممتزجة التي توحد الكل, ولا تميز بينهم كأضداد. القسمة علي اثنين إذن عملية حسابية غير واردة علي الإطلاق في الواقع المصري, والسبب هو أن حوارا مجتمعيا دائما ومستمرا اتفق المصريين ضمنيا علي اتخاذه وسيلة لحسم كل بواعث التناحر والتقاتل ووأدها قبل أن تصير وقودا لنيران الفتنة. وشواهد ثمار ذلك الحوار المجتمعي بين عامة المصريين كثيرة ومتعددة, أبسطها هو أن الخلاف في العقيدة الدينية بتفاصيلها اللاهوتية والفقهية لم يكن أبدا مصدرا للفتنة بين المصريين, بل إن سواد الناس والبسطاء علي اختلاف عقائدهم ومللهم, الذين يسكنون الحواري, ويجلسون علي المقاهي, تجمعهم عقيدة واحدة هي أخلاق ولاد البلد التي تعبر عنها الدراسات الاجتماعية عند وصفها بالتدين لدي المصريين بمصطلح الدين الشعبي, وبعبارة أخري أسلوب المصريين جميعا في التدين, وهو الأسلوب الذي لا يفرق بين المسلم والمسيحي في طريقة تدينه, والالتزام بتعاليم ومبادئ السماحة, وحسن المعاملات. هذه الحقيقة الاجتماعية تدعوني للقول بأن المصريين ليسوا في حاجة لما يسمي حوار الأديان, لأن طبيعتهم الثقافية والاجتماعية حسمت هذه المسألة منذ الأزل, وإن كان ولابد منه فمجاله الوحيد هو قاعات البحث المتخصصة في علوم اللاهوت التي تجمع بين علماء الدين الذين يدركون خيط الفتنة من الفكرة. لكننا وحسب الواقع الجديد الذي يحاول المتطرفون وبعض وسائل الإعلام فرضه علي الثقافة المصرية نحتاج إلي عدد من الإجراءات والآليات التي تحفظ للمصريين طبائعهم, وظني أن أول هذه الآليات ليست فقط دعوة الصحفيين والإعلاميين للالتزام بمواثيق العمل المهني, ذلك أن بعضهم قد يري في عملية نقل تصريحات الفتنة وجهة نظر مهنية تحتمل الخطأ والصواب, وإنما نحتاج إلي قانون يجرم نقل تصريحات الفتنة والتركيز علي مثيراتها, فناقل الفتنة في رأيي فتان, وليس في ذلك اعتداء علي حرية رأي أو تعبير. وأذكر في هذا السياق أن صحفيا ظل أشهر طويلة يستعرض في برنامجه التليفزيوني قصص اختطاف البنات المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين, حتي إن كثيرا منها كانت تبدو غير منطقية, لكنه فعل ذلك تحت زعم نقل الحقيقة. الأمر يحتاج لتجريم كل تصريح من شأنه أن يثير الفتنة يدلي به أي رجل دين, أو شخصية عامة علي أن تشدد عقوبة صاحبه, بيد أني أري أن من مثيرات الفتنة أيضا ليست بين المسلمين والمسيحيين, بل بين المواطن والدولة هو اجتراء بعض علماء الدين علي تحريم أمور يجيزها القانون عبر فتاوي عديدة مثل تحريم العمل في السياحة, وفائدة البنوك وغيرها من المسائل التي امتدت في بعض الأحيان لتهديد الأمن القومي, مثلما فعل أحدهم وأفتي بوجوبية قتل أي مواطن إسرائيلي علي الأراضي المصرية في أثناء حرب لبنان عام2006, لذلك نحتاج إلي قانون يجرم الفتوي فيما نظمه القانون والدستور, وعلي مصدر الفتوي أن يتجه مباشرة إلي المحكمة الدستورية العليا التي تقضي بدستورية القوانين من عدمها, لأن في ذلك استقامة لمفهوم الدولة المدنية التي لا تعترف بالفتوي وفقا للهوي. وحتي لا تصبح المسائل المتعلقة بحرية العقيدة مادة للصحافة والإعلام أضحي لزاما تفعيل النص الدستوري الذي يقرر حرية العقيدة علي أن تنظمه قوانين عملية من شأنها أن تضمن حرية المواطن المصري في اختيار عقيدته بعيدا عن شبهات الابتزاز, وحتي يصبح الأمر شخصيا, وهو كذلك بالفعل, ولا يستحق أن يكون مجرد خبر صحفي, لكن غياب الضوابط والآليات التي تنظم هذه العملية جعلت من عقيدة الفرد شأنا عاما تلوكه الفضائيات. وفي السياق نفسه بات طرح مشروع قانون بناء دور العبادة الموحد للمناقشة في الفصل التشريعي المقبل أمرا ضروريا لوأد كل مسببات الفتنة, وقطع الطريق علي مشعلي الحرائق.