يري الكثيرون في حياة محمد الكحلاوي النموذج الرجالي لرابعة العدوية, فالرجل عاش النصف الأول من حياته بالطول والعرض والارتفاع حتي قرر الانقطاع عن كل ملذات الحياة وعاش حياة متصوفة حقيقية امتدت لعقود طويلة حتي رحل عن دنيانا, لكن هذه الرؤية فيها كثير من الاختصار والاختزال وربما الظلم, لرجل فنان كبير, خدم الفن, وخدم المديح النبوي تحديدا, في كل مرحلة من مراحل حياته, ولكن بشكل يراعي طبيعة كل مرحلة. الحيرة ولم يكن النصف الأول من حياة الكحلاوي ينم عن الانفلات بقدر ما كان يدل علي الحيرة الشديدة التي عاشها, فقد ولد محمد مرسي عبداللطيف يتيم الأم في12 أكتبور1912, وعندما فتح عينيه علي الدنيا كان قد عرف يتم الأب, ليلتحق بخاله محمد الكحلاوي, الذي ورث عنه اسمه وموهبته, فقد كان الكحلاوي الكبير مداحا معروفا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وتبدأ ملامح الحيرة مبكرا مع الفتي, فقد أحلقه عمه بمدرسة للراهبات الفرنسيات, ومنها اكتسب صفات الشفقة والحنان والتسامح التي لازمته مدي حياته, غير أنه يترك الدراسة في هذه المدرسة ليقرر الالتحاق بالأزهر,ومن هنا يتعلم أصول الدين, فيحفظ القرآن الكريم, ويبدأ في تلاوته وتجويده. وبمجرد وصول الفتي إلي سن الصبا, يلحقه خاله بوظيفة في السكة الحديد, وكما تعلم فإن السكة الحديد تمتلك ناديا هو الأقدم في مصر, وكان نادي السكة الحديد أحد أندية القمة في القاهرة, ويكفي أنه هزم الأهلي ذات مرة بستة أهداف دون مقابل, حتي لقبوة بالستة الحديد. وهكذا تعرف الكحلاوي علي عالم كرة القدم, وأصبح لاعبا بفريق السكة, بل كان واحدا من أبرز اللاعبين, وهو ما سيترك أثره علي الكحلاوي لفترات طويلة, وكان إلي جانب انتمائه لنادي السكة متعاطفا مع نادي المختلط( الزمالك حاليا) ضد النادي الأهلي, وكذلك متابعا لفريق الترسانة, وكان ينتقل بين الملاعب خلف فريقيه, بالإضافة إل لعبه مع السكة الحديد. وهكذا كان علي الكحلاوي أن يختار بين الالتزام بالوظيفة الميري أو الجري وراء موهبة الكرة والتنقل بين الأندية, لكن هذا الخلاف تم حسمه لصالح طريق ثالث وهو الفن! الشام في ذلك الوقت البعيد, كانت الفرق الفنية تجوب الشوارع, وتعرض عروضها بين الناس, كانت الأجواء تسمح بذلك, وكانت منطقة مثل الأزبكية تتحول يوم الخميس إلي سوق للمعروضات الفنية, فهنا فرقة منيرة المهدية, بجوارها فرقة الشيخ سلامة حجازي, والمعلق ينادي علي النمر( جمع نمرة( بالطريقة التي كنا نراها في الأفلام القديمة. وكان الكحلاوي يحرص علي حضور هذه الأمسيات علي الأقل كشاب في بداية حياته, وكان هناك تقليد يقضي بإتاحة الفرصة للمتفرجين بأن يشاركوا في بعض العروض, بمقطع من أغنية, بلعب دور كومبارس صامت أو ما أشبه, لكن الكحلاوي ليس أي متفرج انه ابن شقيقة الكحلاوي الكبير, وهكذا أفرد له. زكي عكاشة مساحة في فرقته طبعا زكي عكاشة صاحب فرقة كما هو واضح وفي خلال اسابيع تلقي الفتي العرض الاهم في حياته. عرض عكاشة علي الكحلاوي ان يسافر معه الي الشام لاحياء حفلات هناك كفنان محترف, ولم يتردد الصبي في القبول, رغم تردده في جميع شئون حياته, وهكذا وجد نفسه في بلاد غريبة لا يعرفه فيها احد, دون ان يبلغ حتي خاله, خرج بملابسه دون تكلفة السفر, وقروش قليلة كان قد حصل عليها من عمله. لكنه وجد في الشام شيئا ما كان يفتقده, ولذا بقي هناك, تاركا الفرقة تعود من دونه بعد شهرين, اما هو فقد ظل هناك ثماني سنوات, حتي غلبه الحنين فعاد, لكنه لم يعد كما راح, بل عاد محملا بمبلغ اربعين الف جنيه خمسين مليون جنية( مستريح) باسعار اليوم . البدوي في لبنان تعلم محمد الكحلاوي اهم ما ميزه عن اقرانه وهو الفن البدوي, وبمجرد عودته اتجه الكحلاوي اتجاهين: الاول, تصوير الفن البدوي في عدة افلام واسكيتشات حققت نجاحا غير طبيعي, ويكفي ان تعرف ان الاعلان في سينما ريفولي عن اذاعة اسكيتش الكحلاوي بين فيلمين, يضمن النجاح للثلاثة للاسكيتش والفيلمين ,وهكذا كسب الفنان القادم من الشام اضعاف ما كسبه بالشام. الاتجاه الثاني, هو العوامة, والعوامة كما نعرف بيت في النيل, وكانت العوامات تنتشر بالقرب من ميدان الكيت كات, بامتداد النيل حتي الجيزة جنوبا, اشتري الكحلاوي عوامة لتجميع لاعبي الكرة في فريق الزمالك, وكان المقيم الاساسي فيها اللاعب الشهير حنفي بسطان, بالاضافة الي كامل صرصار لاعب الاوليمبي, وقد شهدت العوامة ليالي( طوال وعراض) للكحلاوي ورفاقه, وكان اهم ما يميز المنطقة هو عوامة الكحلاوي وهناك اطنان من النكات والحكايات المعروفة في الوسط الرياضي حدثت خلال فترة الاربعينيات من خلال هذه الشلة . علي اية حال فقد شهدت فترة الاربعينيات انطلاقة كبيرة لمسيرة الكحلاوي, فدخل السينما نجما كبيرا, وتصدرت صورته افيشات افلامه لم يظهر فيها الا دقائق بسيطة, وكون شركة انتاج في الواقع هي ثاني شركة انتاج مصرية وكانت تحمل اسم افلام القبيلة ليناسب الشكل البدوي الذي اختار له بيرم التونسي وزكريا احمد ملحنا ليشتركا معا في ثلاثي تسبب في انتشار الاغنية البدوية, حتي ان ام كلثوم استعانت بضلعين من هذا المثلث لعمل اغاني فيلم سلامة الشهير قولي لي ولا تخبيش يا زين التصوف مع بدايات الخمسينيات حدث تحول خطير في حياة الفنان, لا احد يعرف سببه علي وجه التحديد, ففي حين يكتفي ابنه احمد الكحلاوي بترديده لمقولة ان النصف الاول من حياته كان جاهلية الكحلاوي ويري بقية ابنائه, ابرزهم الدكتورة عبلة الكحلاوي, ان رؤية رآها الفنان الراحل كانت السبب في تحوله, فقد رأي الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وقد خلع عليه بردته, وقد كتب عليها: مداح الرسول ! علي اية حال فاننا والاجر علي الله والعلم عنده, لا نعتبر ما حدث للكحلاوي تحولا جذريا, بقدر ما هو مسيرة طبيعية لرجل تقدمت به السن وهو لم يقدم علي أية حال ما يشين او يعيب, وهكذا اصبح الكحلاوي من اهم المداحين, وتمثل اغنياته الدينية نحو نصف انتاجه الفني فقد لحن اكثر من600 لحن ديني من مجمل انتاجه الذي قارب1200 لحن وما يؤكد ان ما حدث للكحلاوي لم يكن تحولا جذريا بقدر ما هو امتداد لمسيرة فنية هو انه اضاف كثيرا للمدح النبوي الذي اقتصر في ذلك الوقت علي التواشيح الدينية, او المدائح الشعبية كما رأيناها عند البرين والرنان والتوني والتهامي اما الكحلاوي فقد وضع اسسا للمدح النبوي, واصبحت المدائح تؤدي بنوتة موسيقية وفرقة كاملة, وقد تلون في غنائه بين الانشاد والغناء والسير والملاحم والاوبريتات, فقد قدم سيرة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم و سيرة السيد المسيح وقصة حياة سيدنا ابراهيم الخليل ولكن تبقي اشهر اغنياته علي الاطلاق هي لاجل النبي وعامل معاصي يابا . وما يؤكد ايضا ان ما حدث للكحلاوي لم يكن تحولا بالمعني المفهوم انه ادي فريضة الحج40 مرة متواصلة فلم يقطع الحج اربعة عقود متواصلة فكان يعتكف علي جبل القصير علي البحر الاحمر اعتقادا منه ان سيدي ابي الحسن الشاذلي القطب الصوفي يقرأ معه القرآن, ثم يعود مرة اخري لمقامة!! وكان ذلك مقدمة لروح صوفية اجتاحته في اواخر ايامه, ودخل مرحلة الورع والزهد, فكان يعتكف في مسجده بالامام الشافعي اسبوعا او ما يزيد يقرأ القرآن ويصوم, ثم يخرج بلحن جديد. كما كانت له تجلياته النابعة عن الهام صوفي ونزعة تغلبه في التقرب الي الله تعالي واوليائه الصالحين, فقد هجر عمارته المطلة علي النيل في حي الزمالك الراقي وبني مسجدا يحمل اسمه وسط مدافن الامام الشافعي وبني فوقه استراحة وسكنها وبني كذلك مدفنه فيه, وهو المدفن الذي استقبله رحمه الله في الخامس من اكتوبر1980 وربنا يرحم الجميع.