نحن نعيش في عالم يعاني الجوع والعطش, إنها الحقيقة الواضحة الجلية التي نضيف إليها تلك الكوارث الطبيعية والأزمات المفاجئة بكل ما تفرضه تداعياتها من أوضاع تستوجب التعامل الفوري معها, وذلك كله يمثل إشارات متتابعة تدق ناقوس الخطر حتي نتوقف عن إهدار ما تبقي من أراض زراعية وموارد مائية هي بكل المقاييس أغلي من الذهب والبترول وبقية الثروات التي تجذب اهتمام الإنسان ولكنها لا تعطيه الحياة مثل الماء والغذاء. قد تكون المصادفة وحدها وهي هنا خير من الف ميعاد التي ربطت في تزامن واضح بين الاهتمام غير المسبوق بظاهرة الاعتداء علي اراضي الدولة واستغلالها بعيدا عن النشاط الذي خصصت من اجله, وبين الانباء المتتالية حول ظواهرمناخية لن تقتصر علي ازمة القمح الروسي, وانما ستكون لها اثارها علي المحاصيل الرئيسية في الكثير من مناطق العالم في ضوء ما يحدث في باكستان والهند واوروبا من فيضانات وامطار وحرائق وما تحدثه من اضطرابات في اسعارها بالبورصات العالمية وقد يتطور الامر الي ما هو اخطر في حال وجود نقص وخلل كبير في انتاج واحد من هذه المحاصيل الرئيسية. هذا التزامن بين صحوة فرضتها مجموعة من القضايا التي تشغل بال الرأي العام ووسائل الاعلام وبين كوارث خارجية تتطاير إلينا شظاياها وتصيب بشكل مباشر الاقتصاد الوطني والمستهلك المصري, فإن ذلك يقودنا إلي الصورة الأشمل والاكثر عمقا مما يبدو علي السطح, وأن القضية التي نحن بصددها لها أبعاد وملامح تختلف تماما عن كونها عمليات متكررة ومعروفة من الكر والفر بين أفراد أو مجموعات تحاول استغلال اراضي الدولة لتحقيق مكاسب وثروات هائلة, وإنما وهذا هو الصحيح ان القضية المطروحة الآن وليس الغد تتطلب رؤية جديدة وجريئة تعيد ترتيب الموارد المتاحة لتحقيق اقصي استفادة ممكنة مما نملكه من اراض ومصادر مياه لتوفير حاجة السوق المحلية والتطلع المشروع لتصدير الفائض إلي اسواق خارجية هي في أشد الحاجة اليه. وحتي نكون اكثر وضوحا نقول ان ما نتحدث عنه يتطلب تحركا جماعيا لتحقيق شراكة ناجحة ومثمرة تضع الارض الزراعية في مكانها الذي تستحقه اقتصاديا ليكون التفريط فيها للبناء السكني أو الصناعي أو التجاري هو الخسارة بعينها. هل هذا ممكن.. نعم.. ونستطيع.. القضية بهذا المنظور تحتاج إلي اطراف قوية لادارة المراحل المختلفة للوصول الي ارباح مؤكدة تثبتها المعدلات القياسية للصادرات الزراعية والتي استطاعت ان تحقق في السنوات القليلة الماضية ما عجزت عن تحقيقه طوال تاريخها, وان كان رقم عشرة مليارات رغم اهميته فإنه يمثل البداية لطموح يستند الي الواقع في ان تصل صادراتنا الزراعية الي ثلاثة واربعة اضعاف هذا الرقم. ولابد من الاشارة الي الموقع المصري الفريد الذي يتيح الوصول الي اوروبا وافريقيا والخليج وآسيا والولايات المتحدة في أوقات قياسية, كما أن علينا الاشارة الي الخبرة المصرية العريقة والممتدة الجذور في انتاج انواع لها شهرتها العالمية ولا تجد منافسا لها من البلدان الاخري, وحتي الصين التي تطارد الجميع فإنها ستكون عاجزة عن ملاحقة الانتاج المصري من الفاكهة والخضراوات وما بعدها من صناعات غذائية. إننا ندعو إلي منظومة متكاملة يشارك فيها كل الوزارات والجهات ذات العلاقة, اضافة الي رجال الاعمال والبنوك والمزارعين انفسهم. والبداية تأتي بوضع خريطة زراعية جديدة تأخذ في الأعتبار استقطاب المساحات الصغيرة للوصول إلي عملية اقتصادية لها جدواها من حيث توافر مستلزمات الانتاج ووسائل النقل المناسبة ودراسات السوق المحلية والخارجية طبقا للمواصفات المطلوب التقيد بها. لم يعد ممكنا الاستمرار في الاعتماد علي قروض متواضعه تمنح للفلاح الذي يقف عاجزا عن تلبية احتياجات اساسية من الايدي العاملة التي ارتفعت قيمة تشغيلها وينتهي به الامر الي خسارة مؤكدة بسبب تقلبات الاسعار وعدم استطاعته التسويق لمحاصيله خارج نطاقه الضيق. تفتيت الملكية وقصور الامكانات والرؤية الضيقة للتسويق عوامل سلبية تؤدي إلي اهدار الجهد والوقت وتصل الي حد عزوف الفلاح عن الزراعة ولجوئه إلي تجريف ارضه أو السعي للخلاص منها إلي شريحة متخصصة في تبويرها واقامة المساكن العشوائية عليها لتضاف إلي اعباء الدولة التي تصبح مطالبة بتوصيل الخدمات الاساسية للمقيمين فيها. وإذا ما تحققت القيمة المضافة وتحولت هذه الارض الي مصدر للربح الذي يمكن ان يتحقق بسهولة في حال توافرت الامكانات للتصدير او حتي للسوق المحلية باسعار مناسبة فإن هذا المزارع سيكون حريصا علي ارضه رافضا التنازل عنها باعتبارها مشروعا مضمونا لايحتمل مخاطر المشروعات الاخري. ومع الخريطة الزراعية الجديدة يجب العمل وبدون ابطاء علي انشاء كيانات اقتصادية كبيرة وقادرة علي تمويل هذه المزارع المجمعة من خلال شركات متخصصة لديها الخبراء والمتخصصون في الزراعة الحديثة والادارة والتسويق ويمكن ان تطرح مثل هذه الشركات العملاقة للاكتتاب العام علي ان تمثل فيها الجهات الاساسية مثل وزارات الزراعة والري والطيران والنقل والبنوك, وقد تختص واحدة من هذه الشركات بمناطق الصعيد لما لها من خصائص وزراعات معينة, وان تكون اخري لمناطق الاستصلاح الجديدة, وثالثة للمحاصيل التقليدية في الوجه البحري. هذه الشركات لايتوقف دورها علي استئجار الاراضي أو استغلالها لموسم واحد وانما يتم تحديث البنية الاساسية لطريقة الري والمعدات اللازمة للوصول الي الميكنة الزراعية التي تحقق اعلي انتاجية مع ضمان الجودة العالية التي تلبي متطلبات وشروط التصدير. وهكذا تتغير الصورة الراهنة التي تضع المزارع تحت مطرقة التجار الباحثين عن ابخس الاسعار وكثيرا ما نسمع عن زراعات وثمار تترك في الارض لان تكاليف تحميلها تزيد من الخسارة المحققة. وقد يكون مفيدا الاشارة الي مشروع خجول يجري تداوله هذه الايام بالتعاون بين وزارات المالية والزراعة والري وفيه يتم تقديم قروض للمزارعين لتطوير وسائل الري ليكون بالتنقيط بدلا من الغمر. ومع التقدير لاهداف المشروع الذي يحتاج الي سنوات طويلة للوصول الي اهدافه, فإن تلك القروض لن تحقق المنظومة الناجحة التي نتحدث عنها, لان الواقع يؤكد أن الزراعة الحديثة ذات الجودة والمنافسة في الاسواق الخارجية تحتاج إلي امكانات وخبرات وادوات مرتفعة التكاليف لايمكن الوصول اليها الا من خلال الشركات المتخصصة التي تسعي الي جذب المزارعين ومن ثم تدريبهم واعادة تأهيلهم للتعامل مع المعطيات الجديدة التي لم تعد تعرف لغة الفأس والساقية. وغني عن البيان ان تلك الشركات الكبري سوف تحقق هي الاخري ارباحا قياسية بالنظر الي جودة الارض وتوافر المياه والايدي العاملة. ولا يحتاج الامر الي شرح العائد علي ميزانية الدولة نتيجة الطفرة المتوقعة في الصادرات الزراعية والصناعات المكملة لها. والمعني الاهم في ذلك كله هو الحفاظ علي الارض الخصبة ليس فقط بالقرارات الموجودة بالفعل والتي تقف عاجزة عن منع العشوائيات داخل الوادي القديم أو التعديات والتجاوزات في الاراضي الجديدة. وإذا كان من الصحيح تماما ان الدولة بأجهزتها وامكاناتها قادرة علي ان تستعيد حقوقها من المتجاوزين وان لديها العصا القانونية التي تلوح بها لكل مغامر, الا ان الجانب الآخر من الصورة يجب ان يحمل الجزرة التي تجعل من هذه الارض كما قلنا اغلي من الذهب وان تعيد لها مكانتها ليكون النشاط الزراعي هو الافضل ربحية من اي نشاط آخر. ويبقي القول ان في ذلك أيضا اعتذارا عمليا نقدمه للفلاح المصري والمزارع الذي يبذل الجهد والعرق ولم يلجأ الي تجريف ارضه وبيعها كما فعل غيره. لقد آن الأوان لمثل هذا الاعتذار حتي ولو جاء متأخرا لأنه هذه المرة ضرورة حياة لتأمين المخزون الغذائي للمصريين لهذا الجيل.. وللأجيال القادمة.