في كثير من الأحيان يُستدل علي حالة المريض، من خلال جس نبضه، ويقول الأطباء إن أسهل طريقة لقياس النبض، تتم عن طريق جَسه، وذلك بوضع الأصابع "السبابة والوسطى" على أحد الشرايين، وإحصاء تعداد النبض في الدقيقة الواحدة. والقدماء استعانوا بقوة النبض لمعرفة الكثير عن الحالة الصحية للمرضى، وذلك لكون ارتفاع موجة النبضة القلبية دالٌ على ضغط الدم، كما هو دالٌ على قوة الدورة الدموية. وهناك الكثير من المعلومات التي يمكن اشتقاقها من نبض الإنسان، وبخاصة في حالات عدم توفر أجهزة لقياس ضغط الدم، وتواجد السماعات الطبية، فيمكن تشخيص تضيّقات بعض الصمامات القلبية، أو تضيّقات بعض الشرايين، عن طريق تحسس النبض.... إلخ! ولست هنا معنياً بالخوض في تفاصيل طبية دقيقة، تأنف الأغلبية عن التعرف عليها، ناهيك عن الخوض فيها، لكن ما أقصده أن جوهر مسألة "جس النبض"، الاطمئنان علي الشخص، من خلال الوقوف علي حالته الصحية، سواء كانت بدنية أو نفسية، لكن في واقعنا للأسف، الأمر معكوسٌ تماما؛ فالمسؤول يجس نبض المواطن، "بكل أصابعه"، ليس طبعاً بقصد الاطمئنان، وإنما لكي يُجهز عليه، كالسباع والوحوش التي تستطلع وضع فريستها، لا لكي "تُسمي" عليها، ولكن لتُعمل أنيابها في جسدها المرتجف. وللمسؤولية درجات ودرجات، وما ينطبق علي الرئيس، يسري علي الوزير، وعلي المدير ورئيس التحرير، وكل من يشغلون مناصب قيادية، سواء في مؤسسات عامة أو خاصة، حكومية أو شبه قومية.. القيادي الهُمام، يتعمد إطلاق تسريبات وبالونات اختبار، قبل اتخاذ أي قرار جائر، أو بالأحري "فرمان" مجحف، وهذه للأسف طريقته في "جس النبض". فإذا ما صادف شيئاً من المعارضة، وقدرا من الاعتراض، ونزراً من التحفظات، لم يزده ذلك إلا غروراً.. تراجعه تكتيكيٌ مؤقت، وتمهله شكليٌ مُنمّق، لا يفكر مطلقا في تصويب أفكاره وتصحيح مساره، وإنما يتحين الفرص، ويُراهن علي عنصر الزمن، لكي يُمرر ما يريد تمريره، ولو كان ذلك علي حساب ملء حلوق الأكثرية ب"المرار"، و"فقع مرارة" كل المرؤوسين، ولو كانت كل اختياراته منافية للعقل، مجافية لأبجديات الحق والعدل.. هذا بافتراض أنه يعترف أصلاً بأي قيمة، أو يستند إلي أدني مبدأ. حقيقة أتصور أن مراكز الأبحاث عندنا بحاجة شديدة الإلحاح، لدراسة "سيكولوجية" القيادي، وأعني هنا "القيادي"، بحكم مركزه الوظيفي، وليس لاعتبار قدراته ومواهبه الذاتية.. لا أستبعد من دون استباق النتائج، أو المصادرة علي المطلوب، أن تتوصل هذه الدراسة أو تلك، إلي أنه لا توجد فروق ذات دلالة إحصائية، بين "القيادي" و"القوّاد"؛ فكلاهما "ينفرد" و"يختلي" و"يتاجر"، و"يتخلي" عن مروءته، و"يتجرد" من مبادئه وأخلاقياته. والغرض أن "يقبض" الثمن، إما بالمال، أو الرضا، أو الأمل في جني المزيد من المكاسب.. وهكذا لا نملك إلا أن نقول "طُز".. علي رأي محجوب عبدالدايم، في رائعة نجيب محفوظ "القاهرة 30"، من دون أن يعني هذا أننا "قوادون" أو "انتهازيون"، ربما لأننا حتي هذه اللحظة لسنا ممن يوصفون ب"القياديين". ولا يعني هذا أيضا يا أستاذ "سمير عطاالله" أننا من عينة "العدميين الفاشلين، الذين لم يحققوا شيئا في حياتهم، سوى تلك الكلمة التي تثير قرف السامعين"، علي اعتبار أن محجوب عبد الدايم، حاول أن يساوي كل القيم والنجاحات، بفشله وإخفاقاته وقصوره، وعقد النقص فيه، ولم يجد شفاء إلا المضي في عدميته: «طز». البعض قد يتهمني بالتعميم، وهذا يجافي الطبيعة العلمية الشكلانية، التي أتحدث بها، وردّي بأن هذا أمرٌ واقعٌ وواضحٌ للعيان، ربما لقوة النظام الروتيني الفاسد بطبيعته، والذي يستحيل أن يسمح لأي قيادي بالخروج عليه، وشق عصا طاعته. وربما أيضا أن الأمر راجع لمقومات ومعايير القيادة، في وقتنا الحالي (طبعاً لن يعارضني أحد إذا جزمت بأن الكفاءة والنزاهة في ذيل اهتماماتها، وفي مؤخرة أولوياتها).. العجيب أنه بإمكان المسؤول- الذي يشبه "الصياد" الممتلئة شباكه بالأسماك- أن يُرضي هذا وذاك.. يجبر خاطري وخاطرك، لكي يتجنب علي الأقل خطر أن ننظر له، في ما بين يديه.. يا أخي، يمكن علشان يتقي الحسد، أو حتي "يخزي" العين.. مفيش فايدة، الواضح أنه لا في دماغه أي شيء، من هذه التفاهات أوالترهات، هو أساسا لا يؤمن بحسد، ولا "يؤمن" أصلاً بأي ملة أو دين أو ضمير، ودعنا من التصنيفات، سواء الدينية، أو الإيدولوجية الفكرية. أحدهم قال لي: هكذا هم اليساريون، لا دين لهم ولا ضمير، وآخر يسوق لك العكس.. وجوابي أنه لا علاقة للدين أو الفكر بأي فساد، الفساد متأصل في النفس البشرية، وتحديدا في الذات "القيادية".. فلا تتعجب إذا ما تم إقصاوك، ولا تندهش أو تستغرب إذا ما جري إخصاؤك.. لم أقل لك أن تستسلم أو تخضع وتُذعن، لكن علي الأقل عليك أن تتفهم وتستوعب! هل يعني هذا أنهم جميعاً "كلاب" أو "قوادون"؟! بالطبع لا... ولكن المغريات تُحاصرهم، والفتن تضرب بكل قوتها وقسوتها، من بين أيديهم ومن تحت أرجلهم، ومن ثم تغشي أعينهم فهم لا يبصرون... ماذا أقول؟! قد يهاجمني البعض ويتهمني بالميل إلي "التجريد"، وبالتالي الدوران في حلقة جهنمية مفرغة. ولكن سأفوّت علي أمثال هؤلاء المغرضين الفرصة، وأؤكد لهم أن الأمثلة من الصعب حصرها، في أي جهة، وفي كل مؤسسة.. خُذ عندك مثلاً امرأة خارقة في "بلاط صاحبة الجلالة" مسؤوله بقُدرة فاجر أو ربما برغبة جاهل، عن ملفات عدة، وأقسام متنوعة... وكأنها امرأة خارقة.. وأخري يجري تفصيل قسم لها، لكي تمتطيه وتهز ساقيها عليه، وثالثة يتم إفساح المجال لها، خارج دارها وبعيداً عن ملعبها، علي حساب من هم أكفأ وأجدر وأقدم منها.. ورابع وخامس وسادس وسابع تتم ترقيتهم في غفلة من الزمن، لا لكفاءة أو مهنية، وإنما لاعتبارات لا تخرج عن المعرفة والمحسوبية!! نحن "النعاج" من سمحنا لهم.. نحن "النعامات" المتغابيات التي دفنت رؤوسها تحت تراب أحذيتهم.. نحن كنّا وكنّا وكنّا... لكننا متنا ومتنا ومتنا، بعد أن سمحنا لهم بركوب ظهورنا، وقياس "نبضنا" من كل زاويةٍ في أجسادنا.. كيف يرحم الله جيفتنا وقد سكتنا علي عُهرهم، وربما حملنا لهم المناشف، من دون حتي أن ننتظر قبض الثمن.. هل عندكم شكٌ بأن الموت أكرم لنا في باطن الكفن؟!! وأخيراً أختم بهذه الأبيات للشاعر المبدع أحمد مطر: جسَّ الطبيبُ خافقي وقالَ لي: هلْ ها هُنا الألَمْ ؟ قُلتُ له: نعَمْ فَشقَّ بالمِشرَطِ جيبَ معطَفي وأخرَجَ القَلَمْ! ** هَزَّ الطّبيبُ رأسَهُ .. ومالَ وابتَسمْ وَقالَ لي: ليسَ سوى قَلَمْ فقُلتُ: لا يا سَيّدي هذا يَدٌ .. وَفَمْ رَصاصةٌ .. وَدَمْ وَتُهمةٌ سافِرةٌ .. تَمشي بِلا قَدَمْ !