من كنوز الشعر العربي...شرُّ البلاد مكان لا صديق به أبوالطيب المتنبي : وَاحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلْبُهُ شَبِمُ ومَن بِجِسمي وَحالي عِنْدَهُ سَقَمُ ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قد بَرَي جَسَدي وتَدَّعِي حُبَّ سَيفِ الدَولةِ الأُمَمُ إِنْ كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ فَلَيتَ أَنَّا بِقَدْرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ قد زُرتُه وسُيُوفُ الهِندِ مُغمَدةٌ وقد نَظَرتُ إليهِ والسُيُوفُ دَمُ وَكانَ أَحسَنَ خَلقِ الله كُلِّهِمِ وكانَ أَحْسَنَ ما في الأَحسَنِ الشِيَمُ فَوتُ العَدُوِّ الِّذي يَمَّمْتَهُ ظَفَرٌ في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ قد نابَ عنكَ شَدِيدُ الخَوفِ واصطَنَعَتْ لَكَ المَهابةُ ما لا تَصْنعُ البُهَمُ أَلزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئاً لَيسَ يَلْزَمُها أَنْ لا يُوارِيَهُم أرضٌ ولا عَلَمُ أَكلما رُمتَ جَيشاً فانثَنَي هَرَباً تَصَرَّفَتْ بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ علَيكَ هَزمُهُمُ في كُلِّ مُعْتَرَكٍ وما عَلَيكَ بِهِمْ عارٌ إِذا انهَزَموا أَما تَرَي ظَفَراً حُلواً سِوَي ظَفَرٍ تَصافَحَت ْفيهِ بيضُ الهِنْدِ والِلمَمُ يا أَعدَلَ الناسِ إِلاَّ في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وأَنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً أَنْ تَحْسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ وما انتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظرِهِ إِذا استَوَتْ عِندَهُ الأَنوارُ والظُلَمُ سَيَعْلَمُ الجَمْعُ مِمَّن ضَمَّ مَجْلِسُنا بِأنَّني خَيْرُ مَن تَسْعَي بِهِ قدَمُ أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمَي إلي أَدَبي وأَسمَعَتْ كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ أَنامُ مِلءَ جُفُوفي عن شَوارِدِها ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويَختَصِمُ وَجَاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكِي حَتَّي أَتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسةٌ وفَمُ إِذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ ومُهجةٍ مُهجتي مِن هَمِّ صاحِبِها أَدرَكْتُها بِجَوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ رِجلاهُ في الرَكضِ رِجْلٌ واليَدانِ يَدٌ وفِعْلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ والقَدَمُ ومُرهَفٍ سِرتُ بَينَ الجَحْفَلَينِ بِهِ حتَّي ضَرَبْتُ ومَوجُ المَوتِ يَلْتَطِمُ الخَيْلُ واللّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني والسَيفُ والرُمْحُ والقِرطاسُ والقَلَمُ صَحِبتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنْفَرِداً حتَّي تَعَجَّبَ منَّي القُورُ والأَكَمُ يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أن نُفارِقَهم وَجداننا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُمْ عَدَمُ ما كانَ أَخلَقَنا مِنكُم بِتَكرِمة لَو أَن أَمرَكُمُ مِن أَمرِنا أَمَمُ إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا فَما لِجُرْحٍ إِذا أَرضاكُمُ أَلَمُ وبَينَنا لَو رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفةٌ إِنَّ المَعارِفَ في أَهلِ النُهَي ذِمَمُ كَم تَطلُبُونَ لَنا عَيباً فيُعجِزُكم ويَكرَهُ الله ما تأْتُونَ والكَرَمُ ما أَبعَدَ العَيْبَ والنُقصانَ من شَرَفي أَنا الثُرَيَّا وَذانِ الشَيبُ والهَرَمُ لَيتَ الغَمامَ الذي عِندِي صَواعِقُهُ يُزِيلُهُنَّ إلي مَن عِندَه الدِيَمُ أَرَي النَوَي يَقْتَضِيني كُلَّ مَرْحَلةٍ لا تَستَقِلُّ بِها الوَخَّادةُ الرُسُمُ إذا تَرَحَّلْتَ عن قَومٍ وقد قَدَروا أَن لا تُفارِقَهم فالراحِلُونَ هُمُ شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بهِ وشَرُّ ما يَكْسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ هذه القصيدة كم مرة قرأت هذه القصيدة الرائعة التي يعاتب المتنبي عبر أبياتها الخالدة سيف الدولة عتاباً مؤثراً تكاد كلماته تنبض وكأنها كائنات حية مدهشة؟.. لا أدري بالطبع، لكني أدري أني لم أشعر بالملل - ولو مرة واحدة - خلال استعادة القراءة، وهذا أحد معايير الفن العظيم.. إنه يتجدد باستمرار، مهما مضت علي إبداعه قرون من الزمان. حين نعيد قراءة مالي أكتم حباً قد بري جسدي - وتدعي حب سيف الدولة الأمم.. لا نشعر أننا نقرأ لشاعر كتب ما كتب منذ قرون، وإنما نحس أن معنا صديقاًً حزيناً يجلس معنا، لكي يبث شكواه من حسد الحاسدين الذين يحاصرونه بأقاويلهم وأضاليلهم، لمجرد أنهم يدركون - في قرارة أنفسهم - أن الرجل الذي يحسدونه ليس صنماً يمكن أن يتحطم ويتحول إلي شظايا، وإنما هو قلب ينبض بكل معاني الكرامة والعزة، وما يزال هذا القلب ينبض رغم الغياب الجسدي لصاحبه العبقري العربي - المتنبي.