قد يجد البعض العنوان غريبا بعض الشيء لمقال سينمائي أو لكتابات تخص السينما, لكن الفكرة التي يستدعيها العنوان ليست غريبة علي المجتمع المصري, فنحن نعيش فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما نعم فمع التغيرات التي شهدها المجتمع المصري والتي ألقت بظلال السلبية علي الكثير من المجالات في المجتمع المصري إن لم تكن علي كل المجالات أصبح الكثير من دعاوي الإصلاح يحمل هذا المعني( فلنرب أولادنا تربية صالحة لنحصل علي مجتمع صالح), هذه الدعوة نابعة من التصور أن أفراد المجتمع لم يعد عندهم ضمير ولا إخلاص في العمل فانعدمت الأمانة وتراجع الشرف أمام الكذب والغش وغيرها من الموبقات التي تنتشر كل يوم في أرجاء المجتمع. بالطبع لا يخفي علي أحد أن تلك الدعوي صائبة في رصدها للسمات التي يمر بها المجتمع المصري, ولكن يجانبها الصواب في الطرح الذي تقدمه كحل.. لماذا؟ لأنها تري بشكل مثالي أن المجتمع ليس سوي مجموع أجزائه أي هو مجموع تكويناته الثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها من التكوينات والكيانات المكونة للمجتمع, ومنها أن المجتمع هو مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه في لحظة فترة معينة. ولكن هذا غير صحيح لأن المجتمع هو مجموع الكيانات والتكوينات المكونة له والأفراد الذين يحيون بين جنباته... بالإضافة ونضع بالإضافة تلك وأسفل منها مليون خط للتأثير المتبادل الذي تمارسه كل تلك المكونات علي بعضها البعض. بمعني أن المجتمع ليس كيانا ساكنا لا حراك فيه بل هو كيان متفاعل بين عناصره وهذا التفاعل بين العناصر يحدث تغيرات في تلك العناصر منها الإيجابي ومنها السلبي وبالتالي جاءت القوانين والنظم لتنظم حركة التفاعل بين عناصر المجتمع لتلافي كل السلبيات الناتجة عن هذا التفاعل( أو علي الأقل الخفض منها). أما الفكر المثالي الأسطوري( بتاع نهد البلد ونبنيها من جديد) وكأن أفراد هذه المجتمعات يصيبهم فيروس, لذا يجب التخلص منهم عن بكرة أبيهم والإتيان بغيرهم, فهو يصلح لألف ليلة وليلة وحواديت قبل النوم( بغض النظر عن استحالة تنفيذه). لقد أرسل الشيخ محمد عبده رسالة إلي أستاذه جمال الدين الأفغاني في المنفي بعد هزيمة الثورة العرابية يقول له فيها إن:- الأمل الوحيد أن يقوم كل منا( يقصد رجال الثورة المهزومين) بتربية عشرة أفراد علي الفكر القويم علي أن يقوم كل فرد من هؤلاء بعد ذلك بدوره بتربية عشرة آخرين وهلم جر ليتولد مع الزمن جيل وطني واع يصل بمصر إلي بر الأمان. بالطبع كان رد الإمام الأفغاني علي محمد عبده( وكان أكثر منه وعيا ووطنية) بأن ذلك أمر شديد السذاجة وهو نتاج حالة الإحباط التي يعانيها نتيجة هزيمة الثورة, كان ذلك قبل أن يرتمي محمد عبده في أحضان الإنجليز واللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر مخطط مذبحة دنشواي. وبالتالي الفكرة موجودة في المجتمع المصري من قديم الأزل فهي مريحة للجميع حيث لا يطلب من أحد أي مجهود يبذل لإصلاح المجتمع بل علي غيره أن يفعلوا ذلك عبر تربية أولادهم تربية حسنة او دينية أو وطنية.. والمسميات كثيرة. هذا الفكر الجدير بكتب الأساطير لم يضع في اعتباره أن من هم مطالبون بتربية الجيل الجديد من الأبناء الذين سينشئون المدينة الفاضلة ليسوا سوي الاهالي البالغين الذين يعيثون في الأرض فساد,ا فلو كانوا علي قدرة لنقل الفضيلة لأبنائهم لطبقوها هم أنفسهم في الواقع... ولكن فاقد الشيء لا يعطيه. كل تلك الخواطر تداعت أمامي وأنا أشاهد مرة أخري فيلمAffliction أو مصيبة من إخراج المخرج وكاتب السيناريو الكبير( بول شرادر) وهو كاتب السيناريو للعديد من الأفلام التي تعد علامات في تاريخ السينما الأمريكية بل في تاريخ السينما ككل منها أفلام مثل( سائق التاكسي- سكور سيزي),( الثور الهائج سكورسيزي)( الإغواء الأخير للمسيح سكورسيزي), ياكوزا سيدني بولاك), وغيرها وغيرها من الأفلام التي تعد تيارا مختلفا في السينما الأمريكية. وبدء شرادر إخراج الأفلام في السينما الأمريكية منذ عام1978 ومازال يقدم العديد من الأفلام المختلفة عن تلك النوعية السائدة في السينما الأمريكية, فيلم مصيبة يحكي عن شخصية( واد وايت هاوس) يقوم بالدور الممثل الكبير نيك نولت الذي تربي في أسرة تعاني من أب سكير يقوم بضرب أمه وأخواته, ويدافع هو عنهم منذ نعومة أظافره. يعمل واد كضابط بوليس محلي في احدي القري النائية وتحدث حادثة في البلدة يموت فيها رجل أعمال كبير, ولكن واد يعتقد بأن الحادثة وراءها جريمة قتل وأن صديقه قد اشترك في قتل رجل الاعمال هذا بالإيعاز من زوج بنت رجل الأعمال ومقاول كبير في البلدة يحاولان انتزاع ملكيات السكان لبناء مدن سياحية. واد لم يترب في البيت وفقا للنظرية المصرية التي سبق لنا التعرض لها ولكنه إنسان صالح يحاول كشف الفساد( أو هكذا يتخيل) وهو ما يؤدي إلي فصله من عمله لنفوذ من يحاول اتهامهم. وهو في نظر الكثيرين إنسان فاشل فزوجته تتركه وترحل مع ابنته لتنفصل عنه, ويحاول أن يتزوج من عاملة في بار تقبل به من جديد كما هو, أخوه أستاذ جامعي وأخته متزوجة من شخصية محترمة, بالرغم من أن الأب سكير وأحمق. تموت والدة واد وايتهاوس ويضطر للعيش مع والده السكير حتي لا يتركه بمفرده. هو حتي الآن مثال للشخصية الوفية الأصيلة بالرغم من كل مشاكل الطفولة والتربية الجديرة بنسج سيناريو كفيلم( جعلوني مجرما) أو حتي( المراهقات), لكن التفاعل بين عناصر هذا المجتمع الصغير... أسرته, تحوله لمجرم, فابنته لا ترغب في الحياة معه وخطيبته تتركه من بعد سخافات أبوه عليها وفصله من العمل, وأبوه يذكره دائما بعنفه مع أمه ومعه شخصيا, وفي إحدي الليالي يتطاول أبوه عليه وهو سكران فيدخلان في مشادة يسقط علي أثرها الأب ميتا فيقوم واد ويتهاوس بحرق جثه أبيه في جرن المزرعة التي يعيشون فيها ويهرب, وقبل هروبه يقتل صديقه الذي يعتقد انه متورط في مقتل رجل الأعمال. الفيلم شديد الروعة في تقديمه بأن عقد الطفولة التي نشأ فيها وعدم تربيته تربية صحيحة لم تجعل منه مجرما أو خارجا علي القانون( بل كان رجل بوليس) بل إن تفاعل عناصر الواقع مع شخصيته هما ماجعل منه شخص عاديا وطيب مجرما هاربا, فالبرغم من تحمله سخف الأب وحمقه, ولكنه دفعه للجنون ليموت الأب في مشادة ويصبح الشخص العادي مجرما. بل إن نظرة المجتمع له بأنه فاشل لعدم تحقيقه النجاح بمفهوم هذا المجتمع( ثراء مكانة) هي ما جعل حياته الزوجية تفشل. بل إن هذه الحالة أو همته بأن الأثرياء الجشعين الذين يستولون علي أراضي البلدة هم وراء جريمة قتل وهمية غير موجودة إلا في خياله, ليصبح كشفهم هو الحالة الإيجابية الوحيدة التي من الممكن أن تجعل منه ذا قيمة. ليست التربية هي من تجعل منك( أو ليست وحدها) شخصا صالحا أو طالحا في المجتمع بل التفاعل مع عناصر هذا المجتمع و أفراده والقوانين المنظمة لحركته والقيم العليا السائدة هو الذي يحدد سلوكك وردود أفعالك إلي حد كبير. أن لم تكن وجهة النظر تلك ذات قيمة للبعض فعليهم بنظرية الشيخ محمد عبده الخاصة بتربية عشرة أفراد فقد تكون حلا. [email protected]