أخيرا أسلمت روحك إلي فاطرها... عندما يكتشف هذا الخبر تصرخ زوجتك لاطمة الخدود.... يهرول إليك أولادك لينكبوا فوقك مقبلين جثمانك... يأتي الأصدقاء والجيران يقفون حول الجثمان ليغمضوا عينيك ويسجوا جسدك... يناقشون فيما بينهم أمر دفنك... يقول أحدهم بصوت متردد لماذا لا يعود إلي بلدته؟... لحظتها تقف زوجتك بثيابها السوداء صارخة في الجميع... لمن يعود؟... تخبرهم أنك بعت جميع ما لك هناك... ستتزايد الأصوات متباينة في الآراء... فجأة يقف ابنك الأكبر ليخبرهم وصيتك بل قل أمنيتك الأخيرة بأن تدفن بجوار والديك... يخرج أحد الأصدقاء هاتفه الجوال ليحضر تلك السيارة التي يطلقون عليها سيارة تكريم الموتي لتحملك إلي قريتك.. يرتبك الجميع وتسرع الأيدي والأرجل لتجهيزك للغسل... ها أنت ترقد فوق المغسلة الخشبية عاريا كما بدأت, يدارون عورتك بقطعة من القماش الكتاني... تتساقط عليك المياه الفاترة... تذكرك بأمك أيام الطفولة... تمتد يد المغسل نحو جسدك تنزع الطين العرقي المتعلق بجسدك... ربما نزعت مع الطين بعض ما جنته يدك.. تحاول إخراج لسانك لتبلله لكنك تكتشف أنك بلا إرادة... تحس بيد المغسل تسد جميع فتحات جسدك بالقطن... أنف... أذن و.. ستشم العطر علي جسدك والأيدي تلفك في كفنك, في تلك اللحظة تتذكر ثياب عرسك... تأتي السيارة.. يحملونك فوق الأعناق لتدخلها ذاهبة بك إلي مثواك الأخير... تصعد زوجتك خلفك رغم رفض الجميع... لا يجد ابنك مفرا من الجلوس مع امه بجوار جسدك.. تتبعك بضع سيارات واتوبيس يحمل العاملين في شركتك... تهمس زوجتك في أذنك معاتبة لك.. كم قلت لك لا تبع كل شيء لك بالقرية... تذكرك بكلمتها القرية مولدنا وقبرنا... تسألك السؤال الذي رفضت أن تجيب عنه طيلة عمرك لماذا قطعت كل حبال العودة؟ حتي نصيبك بقبر أبيك تنازلت عنه من أجل حفنة من المال... تضع زوجتك يدها فوق صندوقك الخشبي صارخة فيك أين سنذهب بك؟... تسقط فوق نعشك مغشيا عليها... يحاول ابنك اعادة الوعي إليها... تسترد زوجتك الوعي شيئا فشيئا... تشهق زوجتك شهقة الحياة.... يسود الصمت السيارة يتخلله أنين البكاء.. يشعر ابنك بأن السيارة لا تتحرك.. وقتها فقط يتحقق من ملامح السائق... تلك الملامح الحجرية التي أكتسبها من كثرة عشرته للموتي... يرد السائق علي سؤال أبنك بأن الطريق كل يوم علي هذا الحال... لجان أو حوادث... يستحلفه أبنك بأن يجد حلا فلابد أن نصل قبل صلاة الظهر... يضع السائق ابتسامة عفوية علي شفتيه المتشققتين حزنا مخبرا ابنك أنه سيسلك طريقا آخر بعيدا عن الزحام... يعود الصمت كاسيا المكان... تشعر برجفة الحساب... تسأل نفسك ماذا سيكون جزاء أفعالك... وعدا أم وعيدا.. تزداد رجفتك عندما تتخيل ضمة القبر... عندما ترسم أمام عينيك صورة ناكر ونكير... تصرخ بأعلي صوتك بأن الدنيا زائلة لكنك لن تسمع صدي صوتك... ستسمع ابنك يبلغ البنوك بوفاتك... ينجح السائق في اختصار وقتك فوق الأرض... تصل إلي قريتك تتبعك بضع سيارات واتوبيس العمال.. تلك القرية التي رفضتها لأنها لا ترضي طموحك بالمال الكثير... في تلك اللحظة تسمع أصوات أهل القرية مرة أخري.. يستفسرون من السائق عن اسمك... عندما يبلغهم السائق يرجعون إلي ذاكرتهم المدفونة منذ عقود... يقول أكبرهم عمرا اسم أخيك... وقتها يتذكرونك فقط.. تقف السيارة أمام القبور ويسأل ابنك أهل القرية عن مكان قبرك... تسمع لحظتها صوتا من بين الجموع يذكرك بأشجار التوت, الجميز, العوم في الترعة, رائحة بيتك الطيني, العرق المتبادل في الملابس, الكتف التي حملت معك نعش أبيك والدموع التي استحلفتك بعظام التربة كي تبقي... صوت أخيك يخبرهم بأنك بلا قبر.. يصرخ فيه ابنك مستنكرا حكمه... يخبره بأنه أخوك... سيصمت ابنك ساقطة دموعه مكفرة عن خطاياك... تعرف وقتها ما كنت تتمني أن تعرفه... كيف كانت تجلس أمك باكية لفراقك.. تستنشق رائحة ملابسك.. كم أرسلت إليك خطابات ترجو منك العودة... لكن تلك الخطابات كانت ترد إليها لتميت الأمل داخلها... تعرف وصيتها الأخيرة... التي كتبتها أنت بأنك لا تدفن بجوارها حتي تشعر ألم الوحدة.. لن تجد الدموع كي تسترحم روح أمك... تسمع أبنك يقبل يد أخيك لعل قلبه يحن علي جثمانك... لكن وصية أمك تقف حائلا دون خروجك من السيارة... أيمن وهدان أسنيت كفر شكر