تمكنت تركيا, عضو حلف الناتو ووريثة الإمبراطورية العثمانية, من توريط إسرائيل حتي النخاع في عملية أسطول الحرية التي راح ضحيتها9 قتلي وعشرات الجرحي, وتسببت في إجماع شبه دولي علي ضرورة فك الحصار عن قطاع غزة, وفضح كل دعاوي القيادة الإسرائيلية حول السلام والوجه الإنساني لإسرائيل. لا يخفي علي أحد أن العلاقات التركية الإسرائيلية من أقوي العلاقات في المنطقة وفي كل المجالات, بما فيها العسكري والاستخباراتي. ومنذ فترة دخلت أنقرة علي خط عملية السلام بقوة لافتة للنظر لدرجة أن الساسة الأتراك يتجولون لأكثر من عام كامل في المنطقة لاستطلاع كافة المواقف, بما لا يتناقض مع المصالح التركية سواء العليا أو التاريخية. وأبدت القيادة التركية استعدادها في جميع المحافل الدولية للوساطة بين دمشق وتل أبيب, وبين الفصائل الفلسطينية والإسرائيليين وبين الفلسطينيين أنفسهم. وفجأة بدأت عملية أسطول الحرية في توقيت أكثر ما يقال عنه انه عصيب للعديد من دول المنطقة بما فيها إيران. التساؤلات التي تطرح الآن بعيدة عن نظرية المؤامرة, كونها مجرد تساؤلات فقط: لماذا كل هذا الزخم في الموقف التركي وقطاع غزة يعاني الأمرين منذ سنوات؟ ماذا كان الموقف والدور التركيان في المنطقة عموما وفي عملية السلام علي وجه الخصوص في فترة ما قبل نشاط أنقرة منذ عدة أشهر؟ هل تمهد تركيا لدور أوسع وأكبر يمكنها أن تلعبه في الفترة المقبلة؟ هل سيكون علي حساب الدور الأوروبي, علما بأن تركيا تسعي للانضمام إلي هذا الاتحاد منذ سنوات؟ هل سيكون علي حساب الدور الأمريكي, علما بأن الناتو يقع بالكامل في نطاق المصالح والقرارات الأمريكية؟ أم علي حساب الدور الروسي الذي لا يزال في مرحلة الموقف؟ من الواضح أن الفراغ السياسي العربي, وغياب الدور العربي, دفعا تركيا لجس نبض الشارع والرأي العام العربيين, واختبار صلابة مواقف الأنظمة العربية, ومن ثم تحديد متجهات الدور التركي المقبل وتأثيره في الرأي العام العربي بالذات. إن تركيا, عضو حلف الناتو والتواقة إلي عضوية أوروبا المتحضرة, تستعيد دورا تاريخيا ورثته عن الباب العالي لإثبات جدارتها التاريخية للعب دور بين الإقليمي والدولي في منطقة مليئة بتناقضات يعرفها الباب العالي الجديد جيدا, ولديه الإمكانية لتوظيفها لحساب مصالحه المباشرة من جهة, ولحساب الحلف الأب من جهة ثانية, ولحساب المستقبل مع الاتحاد الأوروبي من جهة ثالثة. وإذا كان الدور التركي المقبل هو الرادع لدور إيراني آخذ في الصعود, فهذا الدور أيضا سيكون بلا شك علي حساب الدور الروسي المرغوب بقوة, علي الأقل وفقا لتصريحات كافة الساسة العرب. بينما الدور العربي ومساحته لا يمكن حسابهما إلا علي أرضية الفراغ السياسي. والأخطر أن يظهر من يروج لدور تركي في الشرق الأوسط باعتبار تركيا هي وريثة الخلافة العثمانية وربط هذا الدور بالإسلام. هنا سيكون الشارع العربي علي المحك! علي الجانب الآخر قد يري البعض أن التراشق الأخير بين طهرانوموسكو بداية لانفصال به الكثير من المنغصات. بل وقد يتصور الكثيرون أن موافقة روسيا علي العقوبات التي فرضت علي إيران خطوة جديدة علي طريق الطلاق العسير. غير أن ما حدث, وما قد يحدث خلال الأسابيع المقبلة يكشف عن أن التوافق بين موسكووطهران هو السمة المميزة لعلاقة الطرفين حتي بعد التصويت علي العقوبات. فلا يخفي علي الإيرانيين أن روسيا لديها أجندتها الصعبة سواء مع أوروبا أو مع الولاياتالمتحدة وبالتالي يجب أن تحصل روسيا علي مساحة من حرية الحركة والمناورة في قضاياها الشائكة مع أمريكا وأوروبا. هكذا أصبحت موافقة الحليف الروسي علي العقوبات تمثل شكلا من أشكال التفاهم والتوافق بين موسكووطهران. في المقابل لن تؤثر هذه العقوبات بشكل جذري علي إيران في أي مجال من المجالات, وهذا ما أعرب عنه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في صيغ متعددة. بينما أكد مندوب روسيا الدائم في الأممالمتحدة فيتالي تشوركين أن موسكو ستتعامل بطريقتها مع هذه العقوبات. أما تأكيد القيادة الروسية علي تشغيل مفاعل بوشهر الكهروذري في أغسطس المقبل أصبح يمثل أحد أهم عوامل التوافق الروسي الإيراني, خاصة وأن رئيس مؤسسة روس آتوم الروسية سيرجي كيريينكو أكد من جانبه بأن روسياوإيران ستقومان بإنشاء شركة مشتركة فيما بينهما لتشغيل المحطة الكهروذرية في بوشهر. وسيقوم طاقم خبراء من البلدين بتشغيل المحطة في السنوات المقبلة. إضافة إلي تأكيدات روسيا بأن العقوبات الجديدة لا تمس إطلاقا صفقة توريد أنظمة إس 300 الروسية المضادة للجو لإيران. وكذلك تقديم الخدمات الفنية مثل صيانة أنظمة تور م1 الروسية المضادة للجو التي قامت روسيا بتوريدها سابقا. إن التوافق الروسي الإيراني المقبل قائم علي عاملين رئيسيين. الأول, تشغيل محطة بوشهر. والثاني, الشركة المشتركة لتشغيل المفاعل. وبالتالي حصلت إيران علي ضمانات روسية غير مباشرة بعدم تعرضها لأي اعتداء من جانب الولاياتالمتحدة, علي الأقل خلال الفترة المقبلة ومع تصاعد الأصوات باقتراب ضربات أمريكية خاطفة للمواقع الحساسة في إيران. ويبدو أن هذه الضمانات جاءت مقابل المرونة التي تعاملت بها إيران مع موافقة روسيا علي العقوبات. بقي فقط الموقف الإسرائيلي الذي قد يعرض المنطقة كلها إلي انفجار مفاجيء في حال قيام إسرائيل بأي خطوة غير محسوبة تجاه إيران, وبالذات في ظل ما يتم تداوله من معلومات بأن الكوماندوز الإسرائيليين يتجولون الآن في الأراضي الإيرانية! إن أي مغامرة من جانب إسرائيل تجاه إيران لن تعرض المنطقة فقط للخطر, بل وستضع روسيا في موقف لا تحسد عليه. فمن جهة, سيتعرض الخبراء الروس وأسرهم إلي أخطار لا يمكن حسابها في حال ضرب الأهداف الحساسة الإيرانية, وقد يري البعض, من جهة أخري, أن إسرائيل قامت بذلك ليس بدون مساعدة روسية غير مباشرة. لكن المؤكد إلي الآن أن موسكو نجحت في مساعيها لإنقاذ إيران من مواجهات عسكرية مباشرة سواء من جانب الولاياتالمتحدة أو إسرائيل. علي هذه الخلفية المعقدة نسبيا, يمكن التأكيد علي دور تركي مستقبلي واسع النطاق ومؤثر يستند إلي دعم الولاياتالمتحدة وقيادة حلف الناتو, ومباركة أوروبية. بل واستحسان من إسرائيل. ناهيك عن ترحيب الرأي العام العربي بعودة الباب العالي مجددا في أبهي صورة علي اعتبار أنه كان في يوم من الأيام وريث الخلافة. وذلك في مقابل إضعاف الدور الإيراني وحصاره في ظل عوامل وظروف متعددة ومتشابكة, من بينها العقوبات الجديدة التي وافقت عليها روسيا والصين, والتهديد المستمر بالقصف والحرب. يبدو أن الهدف هو إضعاف إيران وليس القضاء عليها مثلما حدث مع العراق, لأن بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي الخمسة لديه مصالحه مع إيران, والبعض الآخر يأمل في الحصول علي نصيبه في يوم ما. غير أن الصراع يتركز الآن في المنطقة بين قوتين إقليميتين لديهما طموحات إمبراطورية تاريخية لها علاقات, شئنا أم أبينا, بالمنطقة العربية. أي أن التاريخ يعيد نفسه في إشارة واضحة لمكاسب إسرائيلية بالدرجة الأولي. الأمر الذي يثير القلق ويجعلنا نستعيد التاريخ, لأننا لسنا بعيدين إطلاقا عن هذا الصراع حتي وإن كان يروق لنا بعض الشيء.