من أرضها ينطلق نهرنا الخالد مكملا رحلته التي بدأها من تانا الحبشية ليقطع مشواره الطويل ملتقيا لقاء حميما مع النيل الأبيض علي الأرض السودانية إليها سافرنا.. ومع قبائل البانتو والبوغندا جلسنا.. وإلي جينجا.. وقفنا وجها لوجه أمام شلالاتها الهادرة الهادئة الإنسيابية التي تحمل معها الخصوبة والنماء.. هي البلد الذي يضم ثاني أكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم والأكبر في القارة السمراء.. أوغندا.. ساعة ونصف الساعة من مطار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا كانت كفيلة بأن تنقلنا إلي الأرض الأوغندية وتحديدا مطار عنتيبي!!. أسئلة وعلامات استفهام كثيرة حاصرتنا طوال الطريق.. تري ماذا تحمل لنا أوغندا.. ماذا تخفي لنا أرضها التي تنبع منها بحيرة فيكتوريا؟ ما هو شكل البلد؟ هل تشبه أرض الحبشة التي فاجأتنا بالكثير الذي يحمل معه حركة النمو والتقدم والاستثمار في مختلف المجالات؟ أم أن صورة التخلف والفقر والحرمان وهي الصورة التي ترتسم في أذهان الكثيرين منا عن دول القارة السمراء مازالت ترتسم علي ملامح أوغندا..؟!. منذ اللحظة الأولي التي حطت فيها عجلات طائرتنا أرض مطار عنتيبي ووطأت أقدامنا تلك الأرض وحالة من حالات الدهشة والعجب ارتسمت بداخلنا.. إذ من المستحيل أن تصدق أنك علي أرض سمراء إفريقية بل أنت في جزء من أجزاء أوروبا.. وما أن تستأجر سيارتك لتقطع مشوارا طويلا إلي جينجا حيث منبع نهر النيل الا وتشعر بأنك بالفعل قد دخلت جنة الله علي الأرض بل وتبصم بالعشرة علي المقولة التي بدأت بها سطوري والتي تقول إن أوغندا هي هدية الله إلي الطبيعة!!!. كانت سعادتنا بالغة عندما علمنا أن الطريق من مطار عنتيبي إلي مدينة جينجا قد يستغرق ال6 ساعات.. والحق قد يضايق هذا الأمر من تواتيه الفرصة ليكون مكاننا إذ إن المسافة ليست بقصيرة والجو لا يسمح أبدا بالسير خاصة أن الأمطار التي تهطل تقترب من السيول.. ولكن نعترف بأننا وجدناها فرصة سانحة للاقتراب والتعرف علي ملامح البلد..!! تغيرت أوغندا ضبطت نفسي متلبسة بقول تلك العبارة خاصة أن تلك الزيارة لم تكن الأولي لها بل سبق وكنت علي الأرض الأوغندية منذ ما يقرب من خمس سنوات كانت غارقة في الفوضي والفقر والحرمان.. لم يكن هناك أي أثر لأي نوع من أنواع الاستثمار والتقدم ولكن يبدو أن الأنظار الأوروبية والصينية قد التفتت لها أخيرا وبدأت الأصابع والمصالح تتشابك للتتغير البلد تماما وتصبح في مقدمة الدول الإفريقية التي تبحث لها عن مكانة بل أيضا علا صوتها في الآونة الأخيرة بحثا عن حقوقها وسط مجموعة دول منابع النيل.. ها هي العاصمة الأوغندية كمبالا.. والتي تبعد40 كيلو عن مدينة عنتيبي.. بالمناسبة سميت بهذا الاسم تيمنا باسم حيوان الinnpala وهو يعد الحيوان الرسمي هناك ومنتشر بكثرة بين غابات السافانا الأوغندية. من السهل أن تعرف منذ النظرة الأولي للبيوت التي تمر بها والطرق التي تخترقها سيارتك أن معظم سكان أوغندا من الأرياف ويعملون بالزراعة, وبيوتهم هناك محاطة بأشجار الموز ومساكن الرعاة محاطة بسياجانت من الأشواك التي تحمي الحيوانات المنزلية من الوحوش بل وأيضا مصممة لتحمي السكان من الحر الشديد والأمطار المنطلقة دون رادع لها..!!. حياة الأوغنديين بسيطة جدا.. شيء تستطيع أن تلمسه ما إن تقف استراحة بسيارتك علي أحد جوانب الطريق ربما لتشعل سيجارة مع تناول فنجان قهوة من البن الأوغندي الذي له مذاق خاص.. وقتها بالتأكيد سيخرج عليك من يسكنون القرية التي دخلت إليها وقد ارتسمت علي ملامح وجوههم ابتسامة عريضة.. يحاولون التواصل معك والتودد إليك ولكن أبدا لن يفلحوا فاللغة التي يتكلمون بها هي اللغة العامية التي تشبه السواحلية. وابدا أنت لن تفلح في التفاهم معهم لأنهم لا يعرفون حرفا انجليزيا واحدا.. ولكن توماس مرافقنا الأوغندي كان المدخل والمفتاح الذي فتح لنا قلوب أصحاب الوجوه السمراء والقلوب البيضاء. ما إن علموا بجنسيتنا المصرية حتي وفوجئنا بأن أبواب أكواخهم البسيطة تفتح لنا علي مصراعيها.. وبكرم وود قد تشعر معه بالاختناق من تفاقمه وجدنا أنفسنا نفترش معهم الحصر الذي يفرشونه في أرض الكوخ.. وبسرعة البرق كانت كاتي المرأة الكبيرة في العمر والتي تقترب من السبعين قد وضعت أمامنا وعاء, وقد امتلأ علي آخره بأنواع وأشكال مختلفة من الموز.. فها هو الموز الأخضر, وها هو اخر مسلوقا وها هو ثالثا مشويا وها هو خامسا مطبوخا. انه الأكلة الرئيسية والأساسية في البيوت الأوغندية هكذا قال لنا توماس مرافقنا مكملا حديثه.. هذا رمز الكرم لدينا.. من المستحيل أن يخلو منزلا منه وعندما تقدمه ست البيت لزائرها تعرف منه أن هذا الزائر مرغوب فيه ولأنكم مصريون فهكذا تعاملون.!!* سألت توماس مباشرة ماذا تعرف عن مصر وطلبت منه أن يترجم سؤالي الي كاتي..؟! { اعترف فاجأتني الاجابة عندما قالت لي كاتي وعيناها مليئة بالحب والود وابتسامة لا توصف ارتسمت علي ملامها.. هيبة الرب.. وأم النيل.. وأرض الفراعنة.. لقد قرأت عن مصر الكثير والكثير وتمنيت أن أزورها وأزور كنيسة العذراء مريم التي ظهرت فيها أم النور.. وتمنيت أن أقف علي ضفاف نهر النيل الذي يقطع مصر طولها وعرضها. نحن نحب مصر وننظر إليها بانبهار ونتمني أن نصل الي تقدمها.. أما توماس فقد تكلم عن نفسه قائلا.. مصر بالنسبة لي تعني الزعيم جمال عبدالناصر الذي وقف بجانبنا وبجانب معظم الدول الافريقية في حركات تحررها من الاستعمار.. وأفصح لك بأننا نكره إسرائيل منذ عام1967 ونعرف انها تتربص دائما بكم وبالدول في منطقة الشرق الأوسط ورغم أن الحكومة الأوغندية لها علاقات وطيدة مع الحكومة الإسرائيلية إلا أن هذا لا يمنع في أننا كشعب لدينا بعض من الوعي يجعلنا ندرك تماما ماهية إسرائيل..!! قارئ سطوري لا أستطع أن أصف لك الحالة التي كنت فيها عندما سمعت هذا الكلام اعترف لقد اثلج صدري بل وضعني في حالة من حالات الخجل.. إذ سألت نفسي سؤالا لماذا تأخرت مصر عن دورها في القارة السمراء..؟ لماذا سمحت بدخول دول أخري الي ملعبها الحقيقي الذي يعد أمنا قوميا لنا.. تأخرنا وابتعادنا جعل لدول أخري لا تستحق احتراما وعلي رأسها إسرائيل.. ولكن ماهون علي الكثير أننا قد أفقنا..!!كان قرص الشمس يداعب صفحة مياه بحيرة فيكتوريا التي تحتضنه ليبدأ الغوص فيها معلنا اقتراب لحظة الغروب.. رغم حالة التعب والانهاك التي أفلحت في أن تصيب أجسادنا إلا أننا لم نستسلم لها بل كان المشهد قادرا علي ان يفيقنا ويجعل زميلي المصور حسام دياب يلتقط كادراته وزواياه من كل النواحي لهذا المشهد الفريد من نوعه. ورحت أنا أجول بنظري لمدينة جينجا التي تحتضن أكبر بحيرة استوائية في العالم والتي تعد أيضا إحدي أهم البحيرات العظمي الافريقية وتطل عليها3 دول هي كينيا وتنزانيا وأوغندا. جينجا مدينة صغيرة ذات طبيعة خاصة.. لا تستطيع أن تري بحيرة فيكتوريا الا لو ذهبت اليها. وبالتالي هم أهم مدينة في أوغندا وبدأت تشق طريقها في عالم السياحة فها هي الفنادق الصغيرة التي بدأت تنتشر علي جوانبها وها هو الفندق الصغير الذي اخترناه علي البحيرة مباشرة. وها هو الليل يسدل ستائره وها هو القمر بنوره الوهاج يضيء مياه البحيرة.. وان كان لم يستمر طويلا خاصة عندما اجتاحته الغيوم والسحب والرعود التي راحت تتصارع طويلا في حرب لا تنتهي وكأنها اصوات قنابل وأسلحة متفجرة ليهطل المطر معلنا نهاية الحرب.. وها هي عيوننا تستسلم وتغلق رموشها معلنة النوم في سبات عميق انتظارا لغد مشرق مليء بالعمل..!! ربع ساعة بالسيارة التي اتي لنا بها توماس مرافقنا كانت كفيلة ان تجعلنا نقف وجها لوجه امام أول نقطة تم من خلالها اكتشاف منابع النيل في أوغندا, وتحديدا بحيرة فيكتوريا!! استقبلنا لافتة كبيرة كتب عليها باللغة الإنجليزية تاريخ البحيرة واسم مكتشفها.. عندما قرأتها سيطرت علي حالات السعادة الطفولية.. اذ انني اقف هنا في المكان نفسه الذي وقف فيه الرحالة البريطاني جون سبيك الذي يعتبر اول رحالة أوروبي يصل للبحيرة عام1858 بل واطلق عليها فيكتوريا تيمنا باسم ملكة بريطانيا الملكة فيكتوريا.. في هذا التوقيت..!! ومن قبل جون سبيك كتب الرحالة الإدريسي عن ان هناك نقطة في أوغنذا من عندها ينطلق نهر النيل وكان هذا نحو عام1160 م..!! من هذه النقطة انطلقت إلي سد ادين وهو ذلك السد الذي تم إنشاؤه عام1953 بموافقة مصر بل ومساعدتها أيضا من أجل توليد الطاقة الكهربائية لأوغندا.. عندما تقف امام محطة شلالات اوين عليك ان تعرف إنك تقف امام اضخم محطة كهربائية تصل قدرتها إلي150 مليون كيلووات تركت المحطة وطلبت من توماس ان نستقل قاربا صغيرا لنأخذ جولة سريعة بين صفحات بحيرة فيكتوريا. جاء رده سريعا مبتسما سوف نفعل هذا ولكن عندما نذهب إلي رؤية شلالات ريجون وهي تبعد عن سد ادين بنصف ساعة. استسلمت لرغبته وانطلقت بالسيارة إلي شلالات ريجون التي وقفت امامها مشدوهة مشجونة متأملة صامتة إذ ما كل هذه الانسيابية والرشاقة والطهارة والجمال والهدوء المياه تنحدر بسرعة لامثيل لها متحدية كمية من الصخور العالية المتحجرة لاتعد ولاتحصي. وجدت نفسي أقول له اظن انه من المستحيل ان يستقل احد قاربا هنا. اجابني مبتسما بالطبع ولكن العديد من المغامرين الذين لديهم هواية نزول الشلالات واقتحامها يفعلون ذلك.. قطع حديث توماس طفل لايتعدي عمره16 عاما اقترب مني وتكلم الإنجليزية بطلاقة.. مستعد ان انزل الشلالات الآن ولكن في مقابل20 دولارا. آه ياولدي تبيع عمرك من أجل20 دولارا..؟! هكذا تحدثت مع نفسي ولا اعرف لماذا تسربت الدموع إلي عيني والتي سرعان ماحبستها..!! قلت له ولكنه خطر قال لي واثقا لابل شديد الخطورة..!! قلت ولكن لماذا..؟! قال.. الدولارات.. والمتعة والمغامرة.. إذن فلنر..!! هكذا كان قراري..!! هاهو الطفل الصغير يلبس العوامات ويحكمها علي صدره وبطنه فيتركني مغادرا ليلف من نقطة بعيدة.. هاهي دقات قلبي يكاد يسمعها الواقفون إلي جانبي مع اول لحظة ينزلق بها إلي المياه هاهو يستسلم بجسده النحيل إلي صفحات مياه الشلالات رأسه تغرق وجسده لايظهر.. اكتم صرخاتي فيظهر مرة ثانية.. هاهو يقترب من الصخور.. ارجوك لاتؤذيه.. قد تكون انت احن من الظروف القاسية التي يراها في البر.. هكذا كنت اتحدث مع نفسي عندما اقترب من الصخور.. ها هي تسمع حديثي وهاهي يحن قلبها للصغير فتحتضنه ليمر من وفوقها مرور الكرام ليخرج إلينا فاستقبله بالدموع والابتسامات والدولارات..!! قبل ان اغادر فوجئت بمجموعة من الأجانب من جنسيات مختلفة ولكنهم من المحترفين في العالم الذين قطعوا أميالا ومسافات من اجل ان يخوضوا مغامرة النزول إلي الشلالات. لقد تحولت شلالات ريجون إلي مسرح لأهم وامتع واخطر أنواع الرياضات في العالم..!! قبل ان اودع أوغنذا.. وقبل ان اتجه إلي عنتيبي عائدة إلي القاهرة حيث نيلنا العظيم.. حقق لي توماس امنيتي واخذنا في قارب صغير في قلب بحيرة فيكتوريا ولكن بعيدا عن خطورة الشلالات. هدوء ومتعة وصمت متأمل كنا بحاجة إليهم بعد رحلة شاقة في القارة السمراء.. صفحة بحيرة فيكتوريا التي راحت تحط عليها اجمل واندر أنواع الطيور كانت كفيلة ان تغسل عرقنا وشقانا.. ومشهد الأطفال والصبايا والرجال وهم يمتطون قواربهم الصغيرة المصنوعة من خشب الأشجار كان كفيلا ان يعيدنا إلي الوراء وكأننا في عصور الفراعنة وأجدادنا القدماء. خرجنا من جينجا وكلمات مرافقنا توماس ترن في آذاننا.. سوف انتظركما مها طال الوقت أو قصر. من يأت إلي فيكتوريا مرة فسيأتي إليها مرات..!! تلك هي أسطورتنا الأوغندية..!!