الهوية ترحال.. نطير بأرواحنا قبل أجسادنا علي كعوب الريح.. أرض سوداء حارقة ومحترقة! وجوه سمراء وقلوب ناصعة البياض.. عالم مغلق ودنيا غامضة.. حالة فريدة من نوعها..تركيبة معجونة بالشجن, ممزوجة بدنيا المتناقضات.. وليست خطوط طول وعرض..!! غابات كثيفة متشابكة مبهمة وواضحة في آن..!! للصياد أو الشاعر لا تتعدي سوي فسحة يوم أو حالة من الدهشة والانسجام أما لمن يعيش فيها فهي قدر مجهول ومصير محتوم.. لم أهو غابات الشعراء فهي كثيرا ماتكون حالمة لا مكان لها سوي بين كتل السحاب المتراكمة بل وأؤمن تماما بأن أقصر الطرق توصيلا إلي الحقيقة هي تلك التي تسير عبر الخط الإنساني لا الخط الحديدي. وما أسهل الوصول اليها إذا ما اختارت قدماك الوقوف عند الجماعات البشرية.. البداية هنا.. من عند الوجه الأسمر والضفائر المجعدة والعيون التي تتكلم وحدها.. من عند الحقيقة والبساطة والتلقائية.. البداية من الغابة العذراء.. من إفريقيا..!!! إذن هي القارة العظيمة التي تقف بشموخ واعتزاز علي خريطة العالم.. هي القارة التي شهدت أعتي وأعنف الموجات الاستعمارية واستطاعت بجدارة أن تنتفض وتنتزع حقوقها وحرياتها.. هي قارة الزعيم الإفريقي' نيسلون مانديلا' والزعيم الكيني' جومو كينياتا' وهي تلك التي استحوذت علي اهتمام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي قال عنها في كتابه فلسفة الثورة..' شاء لنا القدر أن نكون فيها وشاء أيضا أن يكون فيها صراع مروع حول مستقبلها وهو صراع سوف تكون أثاره لنا وعلينا سواء أردنا أم لم نرد بالاضافة لضرورة تحمل مسئولياتنا في نشر الوعي والحضارة في أعماق الغابة العذراء علاوة علي أن النيل شريان الحياة لوطننا جميعا يستمد ماءه من قبل القارة'. اعترف واعلنها صراحة أن الرحلة إلي القارة الإفريقية مختلفة بكل المقاييس عن أي رحلة قمت بها إلي أي مكان في العالم وبقدر اختلافها واحتفاظها بمذاق خاص وخصوصية أشد بقدر ماجاءت في أحيان محزنة بل و مفجعة وفي أخري مليئة بالمفاجآت التي تصل إلي حد الصدمات.! ولعلي أوضح لك قارئي في سطوري أنه ما ان أحط قدما علي الأراضي السمراء ألا تنتابني حالة تشبه كثيرا فكرة دخولي إلي المنزل بعد يوم عمل شاق فلا مكان للغربة أو خوف من الوحدة أو قلق من العودة من تلك الأراضي بخيبة أمل خالية الوفاض من انجاز عمل صحفي.. في النهاية البيت واحد والدار أمان. بهذه الحالة النفسية قررنا وزميلي المصور الفنان' حسام دياب' أن نخطو بأقدامنا قارة إفريقيا التي ننتمي إليها حتي النخاع والتي تمثل لنا أمنا قوميا واستراتيجيا أيضا فهي القارة التي نستمد منها شرايين وأوردة حياتنا.. من عندها يندفع نهرنا العظيم الخالد منسابا مهرولا إلي أراضينا يخصبها بالماء والخير ويدفئنا بالأمن والأمان.. أما نحن فنمثل لها الكثير والكثير.. خاصة عندما كنا في وقت من الأوقات قلبها ونبض حياتها بل وكانت بلادها تلقبنا بل وتفرض علينا لقب الأم عندما وقفنا معها نساندها وندعم مواقفها ضد كل أشكال القوي الاستعمارية التي اغتصبت ونهبت أراضيها وثرواتها لفترة طويلة من الدهر..! والحديث عن العلاقات بين مصر والدول الإفريقية حديث يطول ولكن يكفي أن نلخص أنها اخترقت كل المجالات السياسية والثقافية والحضارية والدينية.. لذا قررنا أن ننطلق إلي تلك الأرض العذراء ونعترف لك قارئ سطورنا بأن رحلتنا كانت تحمل أغراضا وأهدافا كثيرة تربع علي عرشها ذاك التوتر وتلك السخونة التي ربما شابت علاقات مصر مع دول منابع النيل والسبب يعلمه الجميع فلا حديث في الآونة الأخيرة في الشارع المصري ومثيله الإفريقي سوي مياه النيل وحصص توزيعها مابين دول المنبع والمصب.. والخلاف حول الاتفاقيات الكثيرة عبر التاريخ التي نظمت توزيع مياه النيل مابين الدول والتي كانت مثارا لاعتراضات دول المنابع والتي لخصت مشكلاتها في أنها لا تستفيد من مياه النهر وأنها تريد إقامة مشروعات في أعالي النيل تتمثل في سدود لتخزين المياه أو لتوليد الطاقة الكهربائية وأن مصر والسودان هما الدولتان الوحيدتان المستفيدتان من مياه النهر وبعد اجتماعات ومفاوضات ومشاورات في عواصم إفريقية مختلفة بدأت في كينشاسا مرورا بالإسكندرية وشرم الشيخ وأديس أبابا وصولا إلي عنتيبي تم عقد اتفاقية وقعت عليها خمس دول من منابع النيل وهي إثيوبيا, كينيا, أوغندا, رواندا, تنزانيا دون موافقة مصر والسودان وتلخصت هذه الاتفاقية في إقامة مشاريع علي أعالي النيل في دول المنابع دون استئذان مصر والسودان.. بينما لم توقع دولة الكونغو الديمقراطية ودولة بوروندي وهما من دول المنابع علي هذه الإتفاقية..!!! هنا مربط فرس رحلتنا' النيل' ولأننا رحلنا مع بداية الأزمة توجهنا إلي أعالي النيل وإثيوبيا ووقفنا عند شلالات النيل الأزرق وبحيرة تانا لنشهد لحظة ميلاد النهر.. ووصلنا إلي فيكتوريا العظيمة في' جنجا' الأوغندية وسمعنا الصوت الإثيوبي والأوغندي ونقلناه عبر ملفات سابقة.. ولأن الأصوات قد علت في الشارع المصري بل وفي الإعلام أيضا مهللة معلنة حالة من الفزع والقلق التي وصلت إلي الرعب من حرمان مصر من نقطة المياه.. التي لا تعني سوي الحياة لنا بل إن هناك من كان يحاول أن يدق طبول الحرب وكأن طريق المفاوضات وصل لسد مغلق في الوجوه.. فلقد كان علينا أن نعود مرة أخري إلي الأرض السمراء لنعرف ونرصد وننقل الحقائق ونجيب علي العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي ربما حاصرتنا جميعا في الآونة الأخيرة.. ووقع اختيارنا هذه المرة علي دولة الكونغو الديمقراطية التي رفضت التوقيع علي اتفاقية عنتيبي وظهر جليا موقفها من مصر.. تري ماهي أسباب الرفض.. ولماذا لم تقف إلي جانب بقية دول المنابع وهي الأقرب إليها..؟! وماهي صحة كلام وزير البيئة الكونغولي والمسئول الأول عن ملف مياه النيل والذي قال إن مصر يجب أن تكون أكثر مرونة في تعاملها مع دول حوض النيل..؟ وماهي طبيعة بلد مثل الكونغو.. لا يعرف عنها المواطن المصري شيئا سوي أنها في القارة الإفريقية.. وقد تكون الصورة التي ارتسمت في الأذهان أنها دولة غارقة في الحروب الأهلية والمشاكل السياسية.. هل هذه الصورة حقيقية أم أننا قوم جهلاء؟! وإذا كانت الصين وتركيا وإسرائيل قد وضعتا أقدام استثماراتهما في معظم الدول الإفريقية وخاصة دول حوض النيل فهل كان للكونغو نصيب من هذا التوغل ؟ وماهي حقيقة الوجود الإيراني والشيعي علي أرض الكونغو؟! وماهي حكاية العمالة المصرية علي تلك الأراضي.. وهل صحيح أن العمال المصريين تركوا مصر وذهبوا إلي آخر الدنيا لكي يعملوا تحت أيدي رجل إسرائيلي.. أم أن هذا وهم من الخيال..؟! وإذا كنا بدأنا رحلتنا بالكونغو.. ماذا لو أنهيناها علي أراضي قبائل' الماساي' في كينيا..؟! ماذا لو ذهبنا إلي رحلة إصطحبناك فيها لنعود بك للوراء قرونا تجلس معنا مع الماساي وتراهم يشربون الدماء ويقطعون آذانهم ويصطادون الأسود والفهود..؟! وماذا لو اصطحبناك معنا إلي رحلة سفاري في الغابة العذراء.. تري هل عالم الحيوانات أكثر احتراما ووضوحا من عالم البشر..؟! أسئلة وعلامات استفهام كثيرة نحاول أن نجيب عنها ونضعك علي الطريق الصحيح. إذا نجحنا في أن نصحبك معنا قارئ سطورنا في كل خطوة نخطوها من مطار القاهرة إلي لحظة العودة.. فهذا مانتمناه... وإن فشلنا فليبقي لنا شرف المحاولة.