عندما تحدثنا قبل فترة عن زواج المصلحة بين واشنطنوطهران لاقتسام غنائم العراق واستنزاف موارد دول الخليج ومحاولة اقناع الرأي العام بعكس ذلك من خلال عقوبات شكلية ووهمية يقرها مجلس الأمن, لم يكن خافيا ان للاسرائيليين حق الفيتو علي الموقف الأمريكي وأن لديهم من النفوذ مايمكنهم من افساد وتعطيل وثيقة الزواج التي جرت بمعرفة المأذون التركي وكان الرئيس البرازيلي شاهدا عليها. كان علي ايران اختبار النوايا الاسرائيلية والضغط علي حكومة نيتانياهو حتي يحسم أمره إما بالقبول والاستسلام لفكرة ايران الكبري والتي يتحدث عنها صراحة المرشد الأعلي خاميئني وأحمدي نجاد, واما بأن تعجل اسرائيل من ضربتها العسكرية التي يجري الحديث عنها باعتبارها المغامرة المحتومة لفك الارتباط بين الملفات الشائكة في المنطقة وخاصة مايتعلق منها بالعراق ولبنان وحزب الله. وللإنصاف نقول إن ايران تقرأ جيدا الواقع الدولي الذي يتيح لها فرصة تاريخية واستثنائية لتنفيذ مخططاتها واحلامها, وهي في ذلك لن تقف ولو للحظة واحدة للمراجعة والتفاوض, وهذه الأحلام والمخططات تركز علي اتمام ابتلاع العراق لضمان عدم استعادته قوته مرة أخري وأيضا وعلي نفس القدر من الأهمية العمل علي استمرار الدعم المذهبي للشيعة, ليس علي أرض بلاد الرافدين فحسب وانما علي امتداد المنطقة وعلي وجه التحديد في دول الخليج التي لاتنسي ايران أنها وقفت الي جانب صدام حسين في حربه الطويلة معها.. انها الحقائق التي يدركها الجميع وان كانت خافتة لاتسلط عليها الأضواء من مختلف الأطراف.. والواقع الدولي الذي نكرر أن طهران تقرأه جيدا يشير بوضوح الي حالة من الضعف غير مسبوقة في الموقف الأمريكي نتيجة الرغبة العارمة من الرئيس أوباما في الانغلاق علي الداخل لإصلاح ما أفسده بوش بسبب مغامراته الطائشة وحساباته الخاطئة التي أوقعته في الرمال المتحركة في العراق وأفغانستان وارتدت سلبا علي الاقتصاد الأمريكي علي هيئة اعصار مالي يعصف بكبريات المؤسسات العملاقة وأثرت تداعياتها علي أوربا الغارقة الآن في الديون. والضعف الأمريكي يجعل ادارة أوباما تقبل بأنصاف الحلول والخروج الآمن للعدد الهائل من القوات الموجودة بالعراق وعدم تعرض اساطيلها للصواريخ الايرانية التي أظهرت تفوقها اثناء العدوان الاسرائيلي علي لبنان وفي المناورات المتكررة في مياه الخليج. وأمام وضوح المشهد يبقي الموقف الاسرائيلي الأكثر غموضا واثارة للقلق الايراني, وهناك انباء وتصريحات علي لسان أركان الجيش الاسرائيلي تؤكد اتمام الاستعدادات لضربة مرتقبة للمنشآت النووية الايرانية, كما جرت اكبر مناورات داخل اسرائيل لقياس الاستعدادات لمواجهة الضربات الصاروخية المتوقعة من ايران وحزب الله. ويبقي الأهم من ذلك كله التعهد الواضح من نيتانياهو بالابتعاد عن أوباما واظهار الخلافات المعلنة معه حتي يحرر نفسه من أي ضغوط وينأي بأمريكا عن قرار الحرب في حال الاقدام عليها لتظل واشنطن علي مسافة تسمح لها بحرية التحرك وعدم التورط مباشرة في المواجهة. وهنا لابد من الاقرار ايضا, بأن اسرائيل هي الأخري تدرك الواقع الأمريكي الذي نتحدث عنه, وتعرف ان الرأي العام والكونجرس لن يسمحا لادارة أوباما بالانزلاق مجددا في حروب أخري في الوقت الراهن علي الأقل مع استمرار النزيف البشري والمادي في العراق وأفغانستان. لذلك كان علي ايران أن تتجه مباشرة نحو اسرائيل وهو علي علم تام بالمفاتيح التي تحرك بها الأوضاع, وهل هناك أكثر من القضية الفلسطينية ستارا كثيفا يخفي مقاصدها الحقيقية ويجذب لها الشارع العربي؟ لم يلجأ أحمدي نجاد إلي حزب الله لأن المحاولة من هناك تعني الصدام السريع وليس اختبار النوايا وخاصة بعد الحملات الأخيرة المتعلقة بنقل صواريخ سكود الي الحزب ووصول السخونة الي مرحلة توشك فيها علي الانفجار ولاتحتمل المناورات السياسية.. واستيقظ العالم علي أسطول الحرية المتجه الي غزة ووقعت اسرائيل في الفخ تماما كما حدث من قبل في العدوان علي لبنان وغزة, وأظهرت اسرائيل وجهها الحقيقي الذي يعرفه العرب جيدا علي مدي العقود الماضية وسقط القناع امام الرأي العام العالمي الذي طالما تحدث عن النموذج الحضاري والديمقراطي في المنطقة فإذا به يري واحدة من الجرائم التي ارتكبت طوال الحروب الماضية التي خاضها العرب دفاعا عن فلسطين. جاء التوقيت متزامنا مع انهاء اجراءات زواج المصلحة حيث من المقرر أن يناقش مجلس الأمن مشروعا للعقوبات الجديدة ضد ايران وصفها رئيس الوزراء بوتين بأنها عقوبات ضعيفة غير مجدية, كما تواصل تركيا بتفويض من واشنطن وضوء أخضر من الادارة الأمريكية مساعيها المخلصة لإتمام هذا الزواج واقناع الرئيس الايراني أحمدي نجاد بالاكتفاء بما حصل عليه من نفوذ وعدم المضي قدما نحو أحلام استعادة الامبراطورية القديمة.. ولعلنا نلاحظ في الآونة الأخيرة انخفاضا ملموسا في سيل الاتهامات والادانات التي تعود الرئيس الايراني توجيهها الي أمريكا, ولم نعد نسمع عن الشيطان الأكبر أو حتي الأصغر, ولكن قادة طهران يتحدثون عن الفرصة التي لن تتكرر وعن ضرورة القبول بالاتفاق الثلاثي الذي يعد في حد ذاته أكذوبة كبري لأنه يعني في واقع الأمر أن تقوم دول العالم بمساعدة طهران علي سرعة تخصيب نصف اليورانيوم الموجود لديها في حين تقوم هي بتخصيب النصف الآخر. الأحداث التي شهدتها المياه الدولية والمجزرة المجنونة التي ارتكبتها اسرائيل قد حققت لإيران هدفين مزدوجين, الأول توجيه الأنظار بعيدا عن مسرح الأحداث الحقيقي حيث يجري العمل علي قدم وساق لإعداد الطبخة الكبري لإعادة رسم خريطة القوي في منطقة الشرق الأوسط, والهدف الثاني وضع اسرائيل تحت ضغوط هائلة لاجبار نيتانياهو علي اتخاذ قراره الحاسم تجاه ايران, استسلاما أو حربا, وينبغي هنا الانتباه لما أعلنته طهران مؤخرا عن تعديل عاجل في خططها لارسال سفن الاغاثة الي غزة مباشرة بدلا من ارسالها من عواصم اخري مما يؤكد ان ايران لم تكن بعيدة عن الأحداث الأخيرة, وأيضا فإن رفض حماس العرض الذي قدمه الحرس الثوري بحراسة السفن هو رفض متفق عليه لأن ايران تراهن دائما علي قدرتها علي المناورة ومنع الانفجار في اللحظات الحرجة. وحالة نيتانياهو لاتبشر بالخير ولاتدعو للتفاؤل لأن الجراح التي أصيب بها قد تدفعه الي القفز نحو المجهول والقيام بمغامرة عسكرية تفرضها الثقافة الاسرائيلية والمعتقدات التي تلزمه بإبقاء اسرائيل القوة الوحيدة الرادعة في المنطقة. والمجهول الذي نقصده هو علي بعد أمتار قليلة.