حسنا فعلت الدكتورة هدي جمال عبدالناصر, عندما قررت الإفراج عن تلك لوثائق المهمة والخطيرة, والتي ظلت بحوذتها اكثر من أربعين عاما, بعدما ظلت نسخة أصلية منها, حبيسة ادراج المكتب الخاص للزعيم الراحل جمال عبدالناصر لأكثر من عشر سنوات, قبل أن تؤول لأسرته من بعده, وعلي وجه الخصوص ابنته الدكتورة هدي التي عنيت طوال ما يزيد علي ثلاثة عقود من الزمان, بالحفاظ علي تراث والدها العظيم, وحمايته من التدمير والتزييف, وبخاصة في نهايات حكم الرئيس الأسبق أنور السادات ومن بعده حسني مبارك. الأوراق الخاصة هو عنوان لكتاب جديد, يصدر قريبا عن المكتبة الأكاديمية,من إعداد الدكتورة هدي جمال عبدالناصر, وقد أسعدني الحظ بالاطلاع علي بروفاته النهائية, وعشرات من وثائقه المهمة والخطيرة, التي تحكي جانبا مهما مما عاشته مصر في السنوات الأولي لثورة يوليو المجيدة, وبخاصة خلال الفترة من العام1952 حتي العام1956, بدء من صيغة الإنذار الذي وجهته الثورة للملك فاروق, مرورا بقرار حل الأحزاب وما تبعه من حل لجماعة الإخوان ومصادرة ممتلكاتها, وليس انتهاء بقرارات الإصلاح الزراعي, وكل ما يتصل بمفاوضات الجلاء والنص الأصلي للاتفاقية باللغتين العربية والانجليزية, بين مصر وصاحبة الجلالة المملكة الانجليزية, والأهم من ذلك الملاحظات التي سطرها جمال عبدالناصر بقلمه علي مجموعة من التقارير السرية, حول تفاصيل الاجتماعات التي استبقت التوقيع علي اتفاقية الجلاء مع الجانب البريطاني, ونقاط الخلاف بين الجانبين المصري والبريطاني. في كتابها الديد ترصد هدي عبدالناصر وجه ضباط الجيش بعد ثلاثة أيام من قيام الثورة إنذارا إلي الملك فاروق بالإسكندرية, للتنازل عن العرش لولي العهد أحمد فؤاد, ومغادرة البلاد قبل الساعةالسادسة مساء نفس اليوم, وكيف أن قادة الجيش الموالين للنظام وللملك, لم يكونوا العقبة الوحيدة أمام الثورة, لكن كان الاحتلال البريطاني, وتواجد أكثر من ثمانين الف جندي في القاعدة البريطانية بمنطقة قناة السويس, تحديدا يعمل له حساب. ويكشف الكتاب عبر عشرات من الوثائق البريطانية عن مفاجات جديدة, وكيف أن الملك استنجد بالانجليز من الإسكندرية عن طريق الأمريكان, وكيف بحث هؤلاء إخراجه من البلاد, إلا أن أقرب باخرة حربية كانت علي مسافة بعيدة, بحيث لا تسمح بذلك في الوقت المناسب, وكيف أن قائد الأسطول البريطاني رفض هذه المهمة, بعدما طلب الملك من الأمريكان أن يحموه, وكيف كان ما فعله السفير الأمريكي, أنه قام بتوديعه في ميناء قصر رأس التين, وهو خارج من البلاد إلي الأبد, واقتصار رد فعل السفارة البريطانية في القاهرة في الأيام الأولي للثورة, علي إخطار محمد نجيب, أن القوات البريطانية لن تتردد في التدخل لحماية الرعايا البريطانيين في حالة تهديدهم. غير أن أخطر ما تعرضه الأوراق الخاصة للزعيم الرحل جمال عبدالناصر, هو كيف بدأ رجال الثورة علي الفور في قلب الأوضاع الداخلية للبلاد, وكيف ظل مجلس قيادة الثورة يقود التغيير في مختلف المجالات, وبخاصة الاجتماعي منها, وهو أمر لم يكن سهلا ولا هينا, إذ سرعان ما تسبب ذلك في تفجير الصدام مع الأحزاب والجماعات السياسية القائمة في مصر, وبخاصة عندما طرح مجلس قيادة الثورة موضوع تحديد الملكية الزراعية, * وقد كان هذا الملف أحد أبرز الأسباب التي عجلت بإقالة وزارة علي ماهر التي صدق عليها الملك قبل رحيله, وتولي محمد نجيب رئاسة أول حكومة للثورة, كان أول ما أنجزته في9 سبتمبر من العام1952, هو إصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي أكد علي البعد الاجتماعي لأهداف يوليو المجيدة. وتستعرض أوراق عبدالناصر الخاصة ذلك الجدل الساخن الذي شهدته مصر, علي مدار اربع سنوات عاصفة في بواكير ثورة يوليو, وكيف وصل الصراع السياسي خلال تلك السنوات إلي أشده, بدءا من إلغاء الأحزاب في17 يناير1952, وليس انتهاء باتخاذ محلس قيادة الثورة قراره في8 نوفمبر1953, باسترداد أموال الشعب وممتلكاته من أسرة محمد علي بالمصادرة, ورد أموال أحمد عرابي وغيره من ضحايا الثورة العرابية ممن صودرت أموالهم في العهد الملكي إلي ورثتهم الطبيعيين. وتعكس الوثائق كيف بدأ مجلس قايدة ثورة يوليو علي الفور, العمل علي وضع شكل جديد للدولة, بتحديد النظام الاشتراكي التعاوني, القائم علي التخطيط العلمي طريقا ومنهجا للجمهورية الوليدة, ولا تخفي الوثائق شيئا عن ذلم الصراع السياسي الذي امتد إلي داخل مجلس قيادة الثورة ذاته, وتعكس اتباين الواضح ي العديد منها, بين أعضاء المجلس من جانب, ومحمد نجيب أول رئيس للجمهورية من جانب آخر, وهو ما عرف في الأدبيات السياسية بأزمة مارس1954, التي انتهت بإقالة نجيب, وتولي جمال عبدالناصر رئاسة الجلس ورئاسة جلس الوزراء, وبدء مصر مشوارها الحافل بالتحديات والانجاز, وهو المشوار الذي انتهي فعليا برحيل الزعيم جمال عبدالناصر في سبتمبر من العام1970, بعدما سار من جاءوا بعده علي ما حققه لمصر والعالم العربي.. باستيكة. رابط دائم :