شيخ العمود «إلكتروني».. شرح 60 كتاباً على يد كبار العلماء أسبوعياً بالأزهر    جامعة كولومبيا تعلن فشل المفاوضات مع الطلبة المعتصمين تضامنا مع فلسطين    «صديقة الخباز» فى الصعيد.. رُبع مليار دولار استثمارات صينية    الغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يقتدي به    مقتل 45 شخصا على الأقل إثر انهيار سد في الوادي المتصدع بكينيا    جلسة تحفيزية للاعبي الإسماعيلي قبل انطلاق المران    غزل المحلة يفوز علً لاڤيينا ويضع قدمًا في الممتاز    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    برلماني: زيارة أمير الكويت للقاهرة يعزز التعاون بين البلدين    البنوك المصرية تنتهي من تقديم خدمات مصرفية ومنتجات بنكية مجانا.. الثلاثاء    السفير محمد العرابي يتحدث عن عبقرية الدبلوماسية المصرية في تحرير سيناء بجامعة المنوفية    مستشهدا بالقانون وركلة جزاء معلول في الزمالك| المقاولون يطلب رسميا إعادة مباراة سموحة    بالنصب على المواطنين.. كشف قضية غسيل أموال ب 60 مليون بالقليوبية    استعدادًا لامتحانات نهاية العام.. إدارة الصف التعليمية تجتمع مع مديري المرحلة الابتدائية    إصابة شخص في تصادم سيارتين بطريق الفيوم    إخلاء سبيل المتهمين فى قضية تسرب مادة الكلور بنادى الترسانة    لجنة الصلاة الأسقفية تُنظم يومًا للصلاة بمنوف    الأزهر يشارك بجناح خاص في معرض أبوظبي الدولي للكتاب للمرة الثالثة    محمد حفظي: تركيزي في الإنتاج أخذني من الكتابة    ردود أفعال واسعة بعد فوزه بالبوكر العربية.. باسم خندقجي: حين تكسر الكتابة قيود الأسر    فرقة ثقافة المحمودية تقدم عرض بنت القمر بمسرح النادي الاجتماعي    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    تحذير قبل قبض المرتب.. عمليات احتيال شائعة في أجهزة الصراف الآلي    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    تهديدات بإيقاف النشاط الرياضي في إسبانيا    كرة اليد، جدول مباريات منتخب مصر في أولمبياد باريس    بعد انفجار عبوة بطفل.. حكومة غزة: نحو 10% من القذائف والقنابل التي ألقتها إسرائيل على القطاع لم تنفجر    مايا مرسي: برنامج نورة قطع خطوات كبيرة في تغيير حياة الفتيات    محلية النواب تواصل مناقشة تعديل قانون الجبانات، وانتقادات لوزارة العدل لهذا السبب    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    خالد عبد الغفار يناقش مع نظيرته القطرية فرص الاستثمار في المجال الصحي والسياحة العلاجية    طريقة عمل الكيك اليابانى، من الشيف نيفين عباس    الكشف على 1270 حالة في قافلة طبية لجامعة الزقازيق اليوم    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    «العالمي للفتوى» يحذر من 9 أخطاء تفسد الحج.. أبرزها تجاوز الميقات    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملف خاص : عبدالناصر .. الزعيم
نشر في الفجر يوم 29 - 09 - 2013


مستقبل مصر فى أوراق عبد الناصر الخاصة جدا

تمكين الثورة

اشترط على الوفد تطبيق العدالة لتولى السلطة

أصبح مصطلح التمكين شهيرا الان بسبب عملية تمكين الإخوان فى عام مرسى، ولكن عملية تمكين الثورة التى قادها عبد الناصر كانت فى الاتجاه المعاكس لتمكين الإخوان. لقد بدأ عبد الناصر من اليوم الاول للثورة فى التفكير فى تمكين الثورة من تحقيق أهدافها.من الارواق المهمة ورقة بخط يد عبد الناصر كتبها فى 27 يوليو، أى بعد الثورة بأربعة أيام، وتحتوى الورقة على ملاحظاته عن الوضع السياسى فى هذه الورقة أو بالأحرى الوثيقة، فكر عبد الناصر فى دعوة مجلس النواب «البرلمان» وإجراء انتخابات جديدة، وتعيين مجلس وصاية على العرش، وكان شرطه لمجلس الوصاية البعد عن الحزبية، كما أكد عبد الناصر أن مجلس قيادة الثورة ليس له أى مطمع، وحمل عبد الناصر مسئولية انتهاك الدستور إلى الأحزاب القائمة خاصة الوفد.

ويكشف الكتاب من خلال الأوراق الخاصة لعبد الناصر أنه عرض على الوفد أن تنقل إليه السلطة بشرطين أساسيين، الأول أن يضمن حزب الوفد جلاء البريطانيين عن منطقة قناة السويس لتحقيق الاستقلال. أما الشرط الثانى فكان تطبيق الإصلاح الزراعى الذى يحدد حيازة الملكية الزراعية ب200 فدان للفرد لتحقيق أول خطوات العدالة الاجتماعية، لكنهم رفضوا الشرطين، وبهذا الرفض تحمل مجلس قيادة الثورة المسئولية كاملة، فأصبح اللواء محمد نجيب رئيساً فى 8 سبتمبر، وهذا يوم فاصل بين عهدين، ففى اليوم التالى مباشرة صدر قانون الإصلاح الزراعى. تكشف الأوراق الخاصة لعبد الناصر فى هذه الفترة انه كان فى صراع مع الزمن لإصلاح ما افسدته الملكية فى اكثر من مائة عام. الملاحظات اليومية تتضمن مجموعات متعددة وشديدة التنوع فى كل شئون الوطن، فى أحد أوراقه الخاصة يكتب عبد الناصر ملاحظاته عن اجتماعات وزارة الخارجية، ومشروع الجامعة العربية لتطويرها وايجارات المساكن، وكان ارتفاع الايجار فى ذلك الوقت يمثل مشكلة للفقراء والطبقة المتوسطة، وفى نفس الورقة يبدى عبد الناصر تخوفه واهتمامه من نشر أخبار ترفع الآمال والطموحات ولكنها تنهار. كما يبدى اهتمامه بالدعاية السلبية وأثرها فى قلة الإنتاج، وفى ورقة أخرى تحمل تاريخ الأسابيع الأولى للثورة يضع عبد الناصر أسساً لتنظيم العمل والاهم انشاء مكتب للشكاوى، وتتكرر ملاحظاته عن مكتب الشكاوى للمواطنين فى العديد من أوراقه الخاصة. فى ورقة أخرى يدون ملاحظاته عن تسليح الجيش المصرى لكنه لا ينسى اعانات الطلبة المغتربين، ويذكر عبد الناصر نفسه بضرورة التعامل مع قائد التنظيم السرى للإخوان (عبد الرحمن الساوى) ومراجعات لاعداد المعتقلين فى السجون، وقضايا التعذيب.

ومثل كل ثورة كان عبد الناصر يولى اهتماما كبيرا بقضية تطهير مؤسسات الدولة من فلول النظام السابق، التى جرت على مراحل، وقد هاجم عبد الناصر علنا وبعنف شديد فى خطابه بالمنوفية رئيس ديوان الموظفين فى ذلك الوقت لأنه اكتشف انه يلعب فى التعيينات ويظلم المواطنين، فقد كان عبد الناصر يدرك أن المصريين ظلموا بما فيه الكفاية، وليس من المقبول أن يستمر ظلمهم بعد ثورة 23 يوليو.

وفى الأشهر الأولى للثورة وبمجرد أن تمكن مجلس قيادة الثورة من الحكم بدأ عبد الناصر فى التفكير فى الاستفادة من خبرات الغرب التكنولوجية، فكتب فى أوراقه الخاصة يذكر نفسه بضرورة استدعاء 4 خبراء ألمان للمصانع، وفى ورقة أخرى يكتب عن الاتصال بالطلاب المصريين الموجودين بالخارج بشكل خاص، وبالمصريين بالخارج بشكل عام.

وكان عبد الناصر ينام وبجواره أرواق وأقلام ليسجل أفكاره أو بالأحرى أحلامه لحظة بلحظة، وكان من بين اهتماماته الأولى مواجهة بلبلة الأفكار والشائعات والأخبار المغلوطة التى تنشرها بعض وكالات الأنباء عن مصر.

ومنذ الربع الساعة الأولى فى عمر ثورة ثوليو أو بالأحرى حكمها. انتبه عبد الناصر مبكرا إلى مشكلة الفتنه الطائفية، فكتب فى أوراقه عن ضرورة مراعاة المساواة والعدل والبعد عن الطائفية فى علاوات الموظفين وحركة الترقيات الوظيفة، فى هذه الورقة اعاد عبد الناصر ملاحظته بزيادة الأعباء على الطلاب. وتثبت أوراق عبد الناصر فى عام 52 أن معظم سياساته الخارجية لم تكن وليدة اللحظة أو رد فعل للأحداث، فقد كان لديه رؤية واضحة لدور مصر الإقليمى والدولى، ففى سبتمبر 52 كتب عبد الناصر ملاحظاته على خطاب للزعيم الهندى نهرو، وفى هذه الورقة حدد عبد الناصر الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، فقد كان من وجهة نظرة أن الحياد مستحيل، ولذلك ظهرت فكرة الحياد الايجابى، وبالمثل كان عبد الناصر مهتما بميثاق الأمم المتحدة، وكانت عيينه فى هذه اللحظة على الكتلة الإفريقية. وإذا كان عبد الناصر قد قال فى إحدى خطبه (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) فقد كتب فى أرواقة الخاصة ملاحظة عن بريطانيا (انجلترا لا تسلم شيئاً إلا إذا ارغمت على تسليمه)، وذلك فى الأيام الأولى للثورة، وحينما كانت تجرى مفاوضات الاعتراف بالثورة أو بالأحرى بالأمر الواقع. فى هذه الأيام رفض عبد الناصر اقتراحا بإعدام الملك فاروق أو حتى محاكمته، ولكن الملك الفاسد ظل يجرى اتصالات مكثفة فى الثلاثة أيام الأولى للثورة بكل من بريطانيا وأمريكا لحثهما على التدخل العسكرى فى مصر، فكل الخونة يستدعون الأجانب لاحتلال بلادهم مقابل العرش أو السلطة فعلها فاروق منذ 70 عاما، وفعلها الآن الإخوان.

تأسيس الجمهورية الأولى

انشغل عبدالناصر بمحاربة الفساد الحكومى وكان يتمنى قبول المسئولين للنقد

تكشف أوراق الزعيم عبد الناصر عن وعى بالمفهوم الحقيقى للديمقراطية، وبلغة العصر أزمة أو لعنة «الصندوق». وبعد رحيله بأعوام بدأت مراكز الأبحاث الديمقراطية فى العالم كله تحاول الإجابة عن سؤال هل الديمقراطية مجرد صناديق وأصوات، وبعد أكثر من نصف قرن حسم الشعب المصرى أمره، وانحاز لفكرة عبد الناصر، وخلع الإخوانى مرسى المقبل بديمقراطية مزيفة، ديمقراطية شراء الأصوات الفقيرة والبطون الجائعة.

فى أوراقه الخاصة يكتب عبد الناصر عن الديمقراطية الوهمية قبل الثورة: «لقد كنا خاضعين للديكتاتورية البرلمانية والديكتاتورية الانتخابية..لقد أهملنا فى المحافظة على حقوقنا الدستورية، فاستغل غفلتنا حفنة من الناس حولوا مصالح الدولة الى مصالح خاصة»، فى هذا الوقت بدأت الثورة فى الإعداد للدستور، والبداية كانت بأول إعلان دستورى، وعكس الإعلان القيم الأساسية لحقوق الإنسان واستقلال القضاء، فلم يكن عبد الناصر معاديا للحريات كما يروج البعض، وفى إحدى أوراقه الخاصة يذكر نفسه بإعانة نادى القضاة.

فى فبراير 53 يكتب عبد الناصر ملاحظاته عن نقائص العمل السياسى وفساد الإدارة الحكومية والفراغ القيادى، يمكن تلمس عناصر الديمقراطية الحقيقة فى فكر عبد الناصر من خلال هذه الملاحظات. كتب عبد الناصر عن الرقابة الشعبية وخطورة إهمال التكوين الفكرى وسيطرة المصالح على الحكومة لتتحول إلى أداة صراع، وصراع الوزراء على السلطات والصلاحيات. وبقدر ما نجح عبد الناصر فى سنوات حكمه فى السيطرة على هذه النقائص. فقد انتشرت وتوغلت هذه الأشكال من الفساد الإدارى فى عصر الرؤساء اللاحقين حتى أدت الى ثورة 25 يناير. فى هذه الورقة المهمة يركز عبد الناصر على أزمة الفراغ السياسى والقيادى التى خلفتها قرار حل الأحزاب، وكان عبد الناصر فى هذه الفترة يدرس كثيرًا فكرة التنظيم الشعبى والسياسى البديل للأحزاب. وتحقيق تكافؤ الفرص فى مجال اختيار القيادات، وتخليص مصر من عثراتها فى المركزية الضارب فى تاريخ مصر.

وتكشف الأوراق أن عبد الناصر لم يكن ينوى فرض رقابة على الصحافة، أو تأميمها على النحو الذى جرى بعد ذلك. فمنذ اللحظة الأولى وهو يقاوم اللجوء لهذه الخطوة.

فى هذه الفترة كان عبد الناصر مهتمًا بترسيخ قيم العمل الإدارى فى الدولة، ومن واقع أوراقه الخاصة يبدو أنه كان منزعجا من القيم السلبية فى المجتمع. مثل العمل الفردى والاحتكار فى العمل. والحساسية المبالغة فيها تجاه النقد، وكتب بخط يده أكثر من مرة ملاحظات حول «فتح الصدر للنقد فى الاجتماعات ومساوئ التمسك بالرأى، على أساس أن التنازل عن الرأى إهانة».

وقد بدأ عبد الناصر فى هذه الفترة وضع الأساس لفلسفة الثورة. لكن عبد الناصر اهتم اهتماما أكبر فى هذه الفترة التى اعقبت إعلان الجمهورية بالأسس الدستورية ونظام الحكم، وتطوير السياسة المالية لمصر ووضع الأسس الحديثة للموازنة المصرية.

كما عسكت أوراق عبد الناصر الخاصة فى هذه المرحلة اهتمام بالغ بالوطن العربى. وفى بعض الأوراق يتحدث عبد الناصر عن حلم الوحدة العربية، وأن السبيل الأول للوحدة هو تحرير الدول العربية، ولا تكاد تخلو ورقة من أرواق عبد الناصر الخاصة من فكرة أو قضية تخص القومية العربية.

ووسط هذه المهام الصعبة والمتعددة لم ينس عبد الناصر خطورة عودة فلول النظام الملكى، وكتب فى ملاحظاته عن ضرورة وضع خطة لفضحهم، واحتكارهم ثروات مصر. وضمان عدم عودتهم للعمل السياسى مرة أخرى. ولكن لم ينس وسط معاركه الكبرى هموم المواطن البسيط فكتب فى أوراق اليومية ملاحظة عن مرضى السل بمدينة السويس.


إخوان وأزمات

ساند الإخوان نجيب فى صراع 54 فقد كان هدفهم إزاحة المشروع الوطنى لعبدالناصر

على الرغم من اهتمام عبد الناصر بتسجيل كل شىء يخطر فى ذهنه، إلا أن هذه الأوراق أو بالأحرى الكتاب تخلو من أوراق خاصة لعبد الناصر عن أخطر صراع بعد ثورة يوليو، وهو صراع عام 54 بين مجلس قيادة الثورة، الذى انتهى بمغادرة اللواء محمد نجيب العمل السياسى واختيار عبد الناصر رئيسا للجمهورية، وقد كان محور الصراع هو عودة الجيش لثكناته وحل مجلس قيادة الدولة، وتسليم السلطة للقوى السياسية، وهو صراع تاريخى كتب الكثير من المحللين وأستاذة التاريخ عنه، ولكن ما يلفت النظر فى هذه الحقبة الخطيرة موقف الإخوان من الأزمة، فقد سارع الإخوان بتأييد موقف محمد نجيب بعودة الجيش للثكنات، وذلك على الرغم من أن نجيب هو من وقع على قرار حل الجماعة، بل إن الإخوان تصالحوا فجأة مع الماركسيين والشيوعيين وبقايا الوفد، لقد فهم الإخوان أن استمرار عبد الناصر بمشروعه الوطنى لن يترك لهم ولا غيرهم فرصة للاستيلاء على مصر أو الضحك على المصريين واستغلالهم، وفى هذه الأزمة استعدت بريطانيا لاحتمالات التدخل العسكرى أو بالأحرى العودة إلى مصر مرة أخرى لأنها تصورت أن مصر ستقع فى فوضى عارمة.

ووقع انشقاق عنيف بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولكن يبدو أن عبد الناصر كان يدرك أن النصر سيكون له، وقد ظهرت قوة عبد الناصر شعبيا عندما أعلن اتحاد العمال عن إضراب عام اعتراضا على قرار حل مجلس قيادة الثورة، لكن زيارة واحدة من عبد الناصر للعمال أنهت الاضراب، وكان معظم مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار رافضين لآراء محمد نجيب، فالجميع يعلم أن عبد الناصر هو مؤسس تنظيم الضباط الأحرار وزعيم ثورة يوليو.

وكانت هذه الفترة قد شهدت نشاطا محموما وخطرًا من تنظيم جماعة الإخوان أدت إلى قرار مجلس قيادة الثورة بحل الجماعة وقرار آخر بمصادرة أموالها وشركاتها، ولذلك فعندما استتب أمر الحكم لعبد الناصر تخلص من الإخوان باسثتناء محاولتهم الفاشلة لاغتياله، وبعد محاكمات الإخوان تحولوا لمجرد سطر من حين إلى آخر فى أوراق عبد الناصر وملاحظاته وخططه، وتعكس أوراق عبد الناصر منذ قيام الثورة وعيه بتحركات الإخوان وأهدافهم السياسية، فمن حين إلى آخر كان عبد الناصر يسجل ملاحظات حول تحركات الإخوان أو بالأحرى مخططات لضرب الثورة، وقد أدى مشروع عبد الناصر القومى إلى سحب السجادة من تحت أقدامهم وهم وغيرهم من القوى السياسية القديمة، فبدون الفقر والجهل وغياب المشروع القومى لم يتكمن الإخوان من السيطرة على الشارع.

خلال المعركتين العنيفتين وبعدهما كان عبد الناصر لا يزال على عهده، كل يوم يكتب أوراقه أو بالأحرى أحلامه، وتكشف أوراق هذه الفترة عن تزايد اهتمام عبد الناصر بقضايا إنشاء نظام اقتصادى متكامل، فى الأوراق يكتب عبد الناصر عن البنك المركزى، وهذا هو أول ظهور لفكرة عبد الناصر عن إنشاء بنك مركزى بدلا من قيام البنك الأهلى بمهام البنوك المركزية، كما تكشف الأوراق عن بدايات التفكير فى تمصير البنوك وتأميم الشركات الأجنبية سعيا إلى استقلال الاقتصاد المصرى، ففى إحدى أوراقه كتب عبد الناصر ملاحظات حول تنظيم البنوك وشركات البترول، وفى أخرى يكتب عن إنهاء سيطرة اليهود على الاقتصاد، وفى هذه الفترة الزمنية أيضا كتب عبد الناصر ملاحظاته حول النظام الضربيى فى مصر وقوانين الضرائب والعوائد والدمغات، واهتم عبد الناصر فى أوراقه أيضا بالثروة المعدنية بمصر.

ففى عز الأزمة السياسية الكبرى فى 54 كان عبد الناصر يواصل العمل على بناء الدولة المصرية الحديثة والمستقلة.

وتعيدنا أوراق عبد الناصر فى هذه المرحلة إلى سياسة الأحلاف التى رفضها جمال عبد الناصر، وموقفه من الحلف التركى وتحركات فرنسا وإسرائيل «الصهاينة» فى المنطقة.

وتكشف أوراق عبد الناصر الخاصة عن تزايد الاهتمام بالإعلام ودوره فى هذه الفترة، ففى أوراقه ملاحظات واشارات متعددة عن تقوية شبكة صوت العرب، وتنظيم الصحافة وضرورة اهتمام الإذاعة بجذب اهتمام المواطنين إلى الدستور، وتخصيص فقرة خاصة «اعرف دستورك»، كما كتب عبد الناصر ملاحظات أخرى عن الجريدة الناطقة، واستمر عبد الناصر فى هذه الفترة فى متابعة أحوال المواطنين العاديين واستقبال الشكاوى، فإذا تحقق من صحة الشكوى كتب ملاحظات حول تعديل بعض الأوضاع أو التخلص من مدير يستحق الإبعاد، وبالمثل اهتم عبد الناصر فى هذه الفترة بحقوق العمال العاطلين وعلى رأسها الحق فى العلاج.

التسليح.. ضربة المعلم

رداً على صفقة الأسلحة.. بريطانيا تستعين بالإخوان لضرب مصر

فى مقدمة كتابها تقول الدكتورة هدى عبدالناصر إنها أعادت اكتشاف والدها من خلال الأوراق الخاصة للزعيم جمال عبدالناصر.. فى ذكرى رحيله تصدر هدى الجزء الثانى من سلسلة (جمال عبد الناصر الأوراق الخاصة) وقد اختصتنا الدكتورة هدى بنسخة تحت الطبع من هذا الكتاب.حين قرأت الأوراق والمحاضر والمعارك فى سنوات الثورة الأولى اكتشفت أن هدى لما تكن وحدها فى إعادة اكتشاف والدها، فالكتاب يقدم إعادة اكتشاف للزعيم من خلال أوراق خاصة جدا لم يكن عبدالناصر يعرف أنها ستكون متاحة للنشر يوما ما، فى هذه الأوراق يكشف عبد الناصر عن أحلامه ومخاوفه واهتماماته القومية والوطنية، وتكشف أيضا الأوراق عن زعيم من طراز خاص. كان عبد الناصر يكتب ملاحظات بجدول أعماله اليومى. هذا الزعيم الذى كان يواجهه حربا شرسة لم ينس يوما أن يضم بين الأعمال الكبرى للوطن ملاحظة باتخاذ قرار لعلاج مرضى السل فى محافظة السويس. فقد كان المواطن هو مشروعه الأول والأخير، يندر أن تجد زعيما يجمع هذا القدر من الاهتمامات أو بالأحرى الهموم فى نفس الوقت، وذات الورقة. مشكلة تعيين الموظفين تتزامن مع مشكلة بناء نظام سياسى جديد بدلا من نظام الأحزاب الفاسدة فى العصر الملكى.

تفصل بيننا وبين هذه الأوراق والزمان نحو 80 عاما أو أكثر، ولكن الكثير من الأوراق والخطب والاهتمامات يتقاطع بقوة مع همومنا فى هذه الأيام. ففى ذلك الوقت كانت مصر عبد الناصر مهمومة بإعادة بناء الدولة المصرية على أسس الاستقلال والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو تعيش مصر فى خضم نفس المهمة الصعبة إعادة بناء الدولة المصرية على نفس الأسس أو بالأحرى الطموحات.

ولذلك فإن هذا الجزء الذى يتناول سنوات الثورة الأولى يكتسب أهمية أخرى.لأنه يقدم روشتة لبعض مشاكلنا الآن، ويستعرض الحلول المختلفة لأصعب مشاكلنا من الاقتصاد للدستور، من الاستقلال الوطنى لبناء شبكة علاقات خارجية لمصر تحقق مصالحها وأهدافها، ويروى الكتاب أيضا مشاكل مصر عبد الناصر مع فلول النظام السابق، ومع إرهاب جماعة الإخوان المسلمين. فى بعض الأوراق أو القضايا كنت أشعر أنه يكفى أن تحذف التاريخ فقط لتصبح هذه الأوراق خاصة بمصر 30 يونيو. فما يتحدث عنه عبدالناصر أو بالأحرى ما واجهه عبدالناصر من مؤامرات لا يختلف كثيرا عما نواجهه الآن. فقد تغير العالم وتبدلت الإمبراطوريات، وبقى الغرب هو الغرب. لا يتقبل نظاماً مصرياً قائم على الاستقلال والتحرر. لا يشعر بالرضا لأن مصر تبنى نفسها واقتصادها وحلمها فى دولة حديثة، واجه عبد الناصر محاولات الاغتيال والتهديد بقطع المعونه الأمريكية، وفرض عزلة على مصر، ومحاولات تفجيرها من الداخل من خلال بعض العملاء، وليس من قبيل الصدفة أو مما يثير الدهشة أن يكون الإخوان أحد هؤلاء العملاء.

ألم أقل لكم أن هذا الكتاب يرسم مستقبل مصر من خلال الأوراق الخاصة لعبد الناصر.

ويصعب عرض الكتاب الثرى بمئات الوثائق والأوراق الخاصة والقضايا فى عدد من جريدة، ولكننا سنركز على أهم المحطات والأوراق الخاصة والوثائق النادرة فى هذا الكتاب المهم.هذا كتاب يملؤك بالفخر حين تقرأه، ويتركك اكثر ثقة بالنفس والغد. فكل المؤامرات الخارجية تتكسر على صخرة الوحدة بين فئات الشعب والانغماس فى بناء اقتصاد قوى فى دولة حديثة.


حين تقرأ الفصل الثالث من كتاب الدكتورة هدى عبدالناصر عن منظمات الدفاع الإقليمى.. ستدرك أن هناك أثرا تاريخيا يجعل تركيا تقف على الجانب الآخر من المصالح الوطنية.لقد كانت تركيا دوما الجسر الذى يدخل من خلاله الغرب للوطن العربى، فى عام 55 تم توقيع الميثاق التركى العراقى، وبدأت بذلك أول خطوة لربط العالم العربى بالدفاع الغربى، ولنزع الصورة الغربية عن الحلف العسكرى تم تغيير اسمه بحلف بغداد ليأخذ الطابع العربى، وقاوم عبدالناصر الضغوط الامريكية والبريطانية للانضمام إلى هذا الحلف أو غيره من الاحلاف الغربية، واعتبر عبدالناصر أن الهدف من حلف بغداد هو وضع البلاد العربية داخل مناطق النفوذ لأن كل من تركيا وإيران وباكستان موجودة فى أحلاف مع بريطانيا وأمريكا.

كانت هذه الخطوة بداية انطلاق مصر إلى تشكيل مجموعة الحياد الإيجابى.

ولكن القصة الأكثر أهمية فى هذا الفصل هى قصة صفقة الأسلحة التشيكية. فالتهديدات الأمريكية بقطع المعونة عن مصر أدت إلى مطالبات شعبية بتغيير التسليح الأمريكى، والانتقال إلى السلاح الروسى، وفى خلفية هذه المطالبات تمثل صفقة الأسلحة التشيكية أو ضربة المعلم السند أو المرجعية الأساسية للرد على الغرور الأمريكى تحت قيادة أوباما، فحين يتعلق الأمر بتسليح مصر فإن أمريكا تضع عشرات المحاذير والشروط. لأن أمريكا لا تريد أن تحقق مصر تفوقا على إسرائيل فى مجال التسليح.هذه القاعدة قديمة ومن أيام عبد الناصر. لقد ظل عبدالناصر ينتظر أن تتراجع أمريكا وبريطانيا عن رفضهما إمداد مصر بالسلاح، فاتخذ القرار الجرىء. أرسل طلبات شراء سلاح لعدد من الدول بدون شروط، واستجابت تشيكو سلوفاكيا، وتم توقيع اول اتفاقية تبادل تجارى بين البلدين. بموجب الاتفاقية اشترت مصر أسلحة بنحو 100 مليون دولار، ودفعت الثمن سلعا من القمح، وقد كانت الصفقة طعنة كبرى ومفاجأة أطاحت بعقول الأمريكيين والبريطانيين معا، فى البداية رفضت أمريكا تصديق الخبر.ثم تأكد الخبر من خلال اتصال بين وزير خارجية أمريكا مع وزير الخارجية الروسى، واكتفى الأمريكى بالتعليق بجملة واحدة «يبدو أن الخبر صحيح» ولكنه عاد فقال «إننا مواجهين بموقف خطير»، وتكشف المفاوضات أو بالأحرى المؤامرات الغربية على مصر فى ذلك الوقت عن حجم الصدمة أو الهزيمة، فقد حاولوا منع الصفقة بشتى الطرق، وظهر رأى بأن يكون الرد من خلال «إيذاء» عبدالناصر فى السودان، ووصل الأمر إلى التفكير فى الإطاحة بعبدالناصر من خلال عملية صريحة، ولكن وزير الخارجية الأمريكى دالاس حذر من أى مساس بعبد الناصر، وقال دالاس للحلفاء الغربيين إن هذه الخطوة ستقلب الرأى العام العربى كله ضدنا، وستؤدى إلى تغلل النشاط السوفيتى فى المنطقة، وظهرت نصيحة امريكية أخرى «يجب أن نقبل بالهزيمة الدبلوماسية ونحاول أن نقللها، يجب أن نتكلم الآن مع عبدالناصر بأسى، وليس بغضب»، لقد غيرت هذه الصفقة سياسة أمريكا فى الشرق الأوسط، وأضاعت الكثير من النفوذ السياسى لبريطانيا فى المنطقة، ولكنها رفعت قدر عبدالناصر، وبالتعبير الأمريكى «لقد أصبح ناصر رجلاً فوق الحصان» بالنسبة للعرب، واعتبرت المخابرات الأمريكية أن صفقة الأسلحة التشيكية هى أكبر حركة درامية فى حملة سوفيتية فى الشرق الأوسط. فهذه الهزيمة الكبرى لأمريكا وبريطانيا دفعتهما لأن يفكرا مرة ثانية أو عاشرة فى اغتيال جمال عبدالناصر والتخلص منه، ولكن عبدالناصر كان قد أصبح عصيا على مؤامراتهما، فبعد هذه الخطوة انطلق جمال عبدالناصر فى تأسيس مجموعات الضغط من دول العالم الثالث، ومن القوى الصاعدة بعد حركات التحرر الوطنى.. لم يسلم عبد الناصر نفسه للاتحاد السوفيتى، وبنى لمصر قاعدة دولية جديدة ومتوافقة مع أهداف الثورة المصرية، فبعد صفقة الأسلحة بدأ عبدالناصر فى الإعداد لمؤتمر باندونج للحياد الإيجابى، فقد كانت فكرة الحياد بين الشرق والغرب ورفض الأحلاف من مبادئ عبدالناصر الراسخة. كان يؤمن أن الشرق الأوسط لن يحميه سوى شعوبه وأهله، ومع نجاح مؤتمر باندونج بدأت إسرائيل فى التحرش بالحدود المصرية، وأعد عبدالناصر خطة للرد على العدوان الإسرائيلى، وفى الكتاب خطة تقدير موقف بخط يده. كان عبدالناصر مصرا على الرد بقوة على اسرائيل.. ليس من خلال العمليات الفدائية فقط، ولكن من خلال عملية جوية. وإلى هنا ينتهى الكتاب بنفس الطريقة التى بدأ بها، ففى الصفحات الأخيرة من الكتاب تعود الدكتورة هدى إلى أوراق عبدالناصر الخاصة، وملاحظاته الهائلة والمتنوعة. ما بين ضرورة شرح الحياد الإيجابى فى الأهرام والصحف يوميا، وجمع صور من جميع تقارير السفارات الأجنبية إلى زيادة مساحة الأغانى فى البرنامج العبرى. ما بين الاهتمام بسياسة شمال إفريقيا إلى ضرورة الموافقة على زيارة شهرية لأحد السجناء السياسيين ليزور والدته من خطة مهاجمة الحلف التركى البريطانى إلى التوصية على طالب طب من الإخوان فى السجن الحربى.تنتهى الاوراق الخاصة عند عام 65. ولكن الكتاب يشمل أيضا وللمرة الأولى تقارير وزارة الخارجية المصرية الكاملة فى ذلك الوقت عن مباحثات الجلاء، ومحاضر الاجتماعات التى عقدتها مصر مع كل الأطراف المعنية، وخاصة الجانب البريطانى.


مفاوضات الاستقلال

استطاعت مصر الثورة هزيمة بريطانيا وأجبرها الشعب على الرحيل من قناة السويس

تخصص الدكتور هدى عبد الناصر الفصل الثانى من كتابها إلى مفاوضات الجلاء مع بريطانيا، وهذا الفصل من أمتع فصول الكتاب، ففيه المحاضر الكاملة لجلسات المفاوضات بين مصر وبريطانيا حول الجلاء، ومحاضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة حول المفاوضات، وكل ذلك ينشر للمرة الأولى باللغة العربية. إنها القصة الكاملة لكواليس واحد من أهم وأخطر القرارات السيادية فى تاريخ مصر.

من أهم الاجتماعات اللقاء الذى تم فى 25 يناير سنة 53 وحضره من الجانب المصرى عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وعبد اللطيف بغدادى، وقد مثل الجانب البريطانى كل من روبرتسون وثلاثة من المفاوضين البريطانيين، وتتجلى فى هذه اللقاءات قدرات عبد الناصر ورفاقه فى التفاوض واستغلال الظرف الدولى، فقد كان الغرب يشعر بتهديد الروس لنفوذهم فى المنطقة، ولذلك بدأ عبد الناصر اللقاء بالقول «سبعين عاما من الاحتلال أوجدت عدم ثقة عند الشعب، ويجب أن يحل إشكال عدم الثقة أولا وخلق جو من الصداقة لكى يقتنع الشعب أنكم لستم أعداءه، لأنه لا يشعر الآن إلا بوجود القوات البريطانية «الاحتلال» على أرضه رغما عنه، وبهذا لا يمكن أن يشعر الآن بأن الروس مصدر خطر، ومرة أخرى يحاول المفاوض البريطانى المماطلة بتحقيق الجلاء بحجة صعوبة التوصل إلى طريقة فيرد عبد الناصر إذا اشتم فى كتابة الاتفاق بقاء الاحتلال، فلن تكون هناك نتيجة.

عندما تعلل روبرتسون بأن المنطقة فى حاجة لمعاونة الغرب وأن الجميع فى بغداد وبيروت وأنقرة طلبوا مساعدتهم. رد عبد الناصر بقوة قائلا هذه المنطقة «العربية» لا يمكن أن يدافع عنها إلا بأهلها وشكك عبد الناصر فى قدرة بريطانيا والغرب فى الدفاع عن المنطقة خاصة أنهم مشغولون بالدفاع عن غرب أوروبا «فى مواجهة أوروبا الشرقية، وراح كل من بغدادى وسالم فى تفنيد خطة الدفاع الغربية والتى كانت تعتمد على تركيا.

وعندما قال المفاوض البريطانى إنه يظن مصر ستحصل على 95% من مطالبها رد عبد الناصر بسرعة «إذا كان الأمر فيه فصال، فان مطلبنا هو الجلاء بدون قيد أو شرط وأننا لن نفاصل»، وفى أوراقه الخاصة يقول جمال عبد الناصر «يجب أن نفهم نواياهم صراحة الآن ولا داعى لبحث جمل لولبية توصلهم لما يريدون، واقترح عبد الناصر أن يتم مناقشتهم فى المرحلة الأولى من المفاوضات فى تفاصيل القاعدة، وكانت بريطانيا تريد أن تبقى قاعدة عسكرية فى مصر حتى يتم تدريب الجنود المصريين، وحتى تستطيع مصر مواجهه الخطر الروسى، ولكن بريطانيا كانت تريد أن تحمى مصالحها الخاصة، وعلى رأسها بترول الشرق الأوسط والالتزمات مع تركيا وأصدقاء بريطانيا الآخرين فى المنطقة، وفى الجولة الأولى من مفاوضات الجلاء بدأت المفاوضات التفصيلية حول عدد الخبراء وحصر معدات قاعدة قناة السويس التى ستؤول إلى مصر، وتكاليف هذه القاعدة، ولكن المماطلات الإنجليزية استمرت فاتخذ عبد الناصر ورفاقه قرارا بإيقاف المفاوضات، فى أوراقه الخاصة كتب عن هذه الفترة قائلا: «إننا لا نساوم على حريتنا، فإننا نعرف أن الشعوب التى تساوم على حريتها توقع فى نفس الوقت وثيقة عبوديتها». وأضاف عبد الناصر يجب أن نستعد لأسوأ الاحتمالات، فى نفس الوقت بدأت الأعمال الفدائية الشعبية ضد القوات البريطانية فى قاعدة قناة السويس، وفى هذه الأيام العظيمة استخدم سلاح المقاطعة فقد تمت المقاطعة من جانب الموردين، وبالمثل بدأ العمال المصريون اضرابا عن العمل، وقد أدى ذلك الموقف الشعبى إلى تعطيل العمل فى قاعدة قناة السويس، وبدأت موجة الحرب الأهلية ضد القوات البريطانية تترفع، فكانت لجان الحرس الوطنى فى كل محافظة تتلقى يوميا عشرات بل مئات الطلبات للتطوع فى منطقة القناة، وتزايدت بسرعة وتيرة العمليات الفدائية ضدهم فى منطقة القناة وأصبح من المستحيل على البريطانيين أن يشعروا بالأمان أو يؤمنوا احتياجاتهم، وكانت الرسالة الواضحة من القيادة والشعب معا «لا مكان للجنود البريطانيين، وبعد محاولات بريطانية لإيقاف الحملة أصاب اليأس الحكومة البريطانية، فانتقلت قيادة القوات البريطانية فى منطقة قناة السويس إلى قبرص، وبعد ذلك القرار بيومين أصدرت القيادية البريطانية فى المنطقة أوامراها بهدم مخازن ومستودعات ومنشآت ميناء الأدبية التى تطل على قناة السويس، وهذه المعركة هى إحدى الصفحات المجهولة فى تاريخ نظام المصريين فى عهد عبد الناصر.

وترصد الدكتورة هدى ملاحظة مهمة ومفيدة لمصر 30 يونيو. تقول الدكتورة هدى «لقد أدرك البريطانيون فى نهاية الأمر أن من أسباب قوة النظام فى مصر شعبيته، من ثم لا يوجد بديل، ففى أيام الملك كانت الوزارة تقدم استقالتها عندما تفشل المفاوضات، أما هذه المرة فالبريطانيون امام وضع مختلف إذا فشلت المفاوضات ودفعت إلى طريق مسدود، فستوجد مشكلة صدام بريطانى فى مصر»، وهذا التعليق من جانب الدكتورة هدى مهم لكل من يحاول بقصد أو بحسن نية أن يخلق الفرقة بين الجيش والشعب فى حالة مصر 30 يونيو، فالوحدة والتضامن بين الجيش والشعب كان أحد أهم الأسلحة فى معركة مفاوضات الجلاء البريطانى.

وقد حاول الإنجليز الاستعانة بالأمير محمد على لإعلان عودة الملكية، ولكن من المفاجآت أنهم ذهبوا إلى حد التفكير فى الإخوان المسلمين كعنصر ازعاج لنظام الثورة. فالإخوان منذ نشأتهم وهم تحت طلب أى قوة أجنبية للتحالف معها ضد إرادة الشعب.

وقد تدخلت أمريكا فى مرحلة عودة التفاوض، وذلك من خلال وزير خارجيتها دالاس، وقد علق دالاس بعد لقائه بعبد الناصر بالقول «ان النظام المصرى لن يعطى تنازلات للبريطانيين، انهم يفضلون الشهادة عن الاستسلام، وقد كان لقاء عبد الناصر مع الأمريكان مدعاة للفخر بزعيم وطنى، فقد رفض عبد الناصر مجرد السماح لبريطانيا بالقول، مجرد القول، إن هناك تخطيطاً لدفاع مشترك بين مصر وبريطانيا، بمجرد أن يبدأ الجلاء، وقال عبد الناصر «إن هذا الأمر سيكون صعبا جدا بالنسبة للرأى العام المصرى، الذى سيرى فى مجرد دفاع مشترك مكروه خفى»، وفى نفس اللقاء وجهة الأمريكان سؤالا لعبد الناصر «كيف تضمن لنا مصر بأن القاعدة ستعمل كالسابق» فأجاب عبد الناصر «وماذا نستطيع غير الوعد».

من الصعب تلخيص كل فصول معركة الجلاء، ولكن مصر عبد الناصر خرجت منتصرة، وقد أقر الزعيم البريطانى بالهزيمة حينما قال «قد ذهب اليوم الذى كنا فيه نضع قواعد فى أراضى شعوب أخرى، عندما تكون هذه الشعوب رافضة لها»، وكان يوم توقيع الاتفاق النهائى فى البرلمان البريطانى يوما حزينا لهم، فقد انهت الاتفاقية 73 عاما من المرارة أو الاحتلال البريطانى، وتم تكسير أظافر وأنياب الأسد البريطانى على يد مصر عبد الناصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.