انتهيت من قراءة كتاب الأستاذ نبيل عبد الفتاح الأخير, والذي صدر تحت عنوان' الدين والدولة والطائفية.. مساهمة في نقد الخطاب المزدوج' عن مؤسسة المصري لدعم دراسات المواطنة وثقافة الحوار, وتزاحمت علي عقلي الأفكار كأنها إضاءات متقطعة ومتسارعة من مصباح عملاق. والكتاب يأتي ليلقي بعض ضوء علي أزمة مزمنة تتحول إلي طور التكلس والتحجر, يكشف عنها' خطاب' سياسي وديني وإعلامي متدهور, ويزداد تدهورا يوما بعد يوم ملحقا الضرر بالدين والدولة معا. أننا نملك ثلاث قوي إيجابية في مجتمعنا المصري تحولت علي مدي السنوات إلي ثلاث معضلات تتشابك مع بعضها البعض هكذا وهنت الدولة الحديثة, وتحول الدين إلي تدين شكلي, وتحولت التعددية الدينية إلي توتر ديني وللصديق الأستاذ نبيل عبد الفتاح وهو الباحث الاجتماعي والمفكر المرموق, عدة مؤلفات حول هذا الموضوع, بدءا من أول مؤلفاته' المصحف والسيف.. صراع الدين والدولة' الذي نشر في منتصف الثمانينات من القرن الماضي, وربما كان أول الكتب التي اهتمت بهذا الموضوع في المكتبة العربية. ورغم التعقيد الشديد الذي أصاب قضايا الدين والدولة والطائفية, والصعوبة في فهم الوهن الذي أصاب المجتمع نتيجة العلاقة الجدلية بينها, فإن القضية تبدو واضحة في ذهن الأستاذ نبيل عبد الفتاح, الذي يتمتع بقدرات بحثية وسعة إطلاع هائلتين, وهو ما يجعل من كتاباته, رغم صعوبتها, مرجعا أساسيا لكل من يريد أن يفهم هذه القضية في تركيبها وتعقيدها. وأهم ما خرجت به من الكتاب أننا نملك ثلاث قوي إيجابية في مجتمعنا المصري تحولت علي مدي السنوات إلي ثلاث معضلات تتشابك مع بعضها البعض بمعادلات تدفع بمجتمعنا نحو التدهور الذي باتت مشاهده تحاصرنا الآن من كل إتجاه. وأول هذه الأشياء هو حضور الدين في المجتمع المصري, هذا الحضور الذي تحول إلي سيطرة طاغية للتدين الشكلي, وجعل الفتاوي الدينية السائلة هي المتحكم في المجال العام, في السياسة والاقتصاد والإعلام, في النوم والاستيقاظ, وفي الغفلة والوعي, في القضايا الشخصية والعامة, المحلية والعالمية, لم يصبح الدين مرجعية عامة لدورنا الإنساني, وإنما أصبح التدين المظهري هو الحياة بكاملها في كافة تفاصيلها. أما ثاني هذه الأشياء فهو الدولة الحديثة, والاستاذ نبيل يحرص علي أن ينبه القارئ علي أنه لا يتحدث عن الحكومة أو النظام السياسي, وإنما يتحدث عن دولة المؤسسات التي هي أداة المجتمعات المتقدمة لتوزيع الموارد المادية والمعنوية التي للوطن علي أفراد المجتمع بعدالة, وهذه الدولة لا يمكنها أن تقوم بهذا الدور دون الاحتكام للقانون الحديث, ودون أن تكون خارج المزايدات والألعاب السياسية. هذه الدولة المصرية التي تعد أقدم دول العالم, وأيضا من أقدم الدول الحديثة في الشرق الأوسط, وتمتلك واحدا من أقوي الأنظمة القانونية الحديثة في العالم الثالث, هذه الدولة باتت تتعرض لضغوط شديدة من مختلف الأيدولوجيات, وقد أدت هذه الضغوط إلي إرباك موقعها من الفرد والمجتمع. ومن ثم أصبحت القضية السائدة في المجتمع ليس كفاءة الدولة وحياديتها وضمان عدم فساد موظفيها وإنما أصبحت القضية الوحيدة المطروحة هي علاقتها بالدين, وتباري الجميع في ابتزاز الدولة باسم الدين. أما الشيء الثالث الذي تمتع به المجتمع المصري لسنوات فهو التعددية الدينية, فالعلاقة التي كانت بين المتدينين من الأديان المختلفة والتي حظيت بقدر مناسب من الاحترام المتبادل علي خلفية الثقافة المشتركة والوطن المشترك, تحولت نتيجة الخطاب الجديد للسياسي ورجل الدين إلي علاقة طائفية, أو كما يفضل الأستاذ نبيل تسميتها توتر ديني. هكذا وهنت الدولة الحديثة, وتحول الدين إلي تدين شكلي, وتحولت التعددية الدينية إلي توتر ديني, وهكذا انعكس ذلك كله علي المناخ الثقافي في مصر, وهكذا تأثر موقع المسيحي والمرأة في المجتمع, وهكذا تراجعت الثقافة المدنية في المجتمع المصري. وليس من شك أن الطرح الذي يقدمه الأستاذ نبيل عبد الفتاح يشكل تشخيصا واضحا للأحوال في مصر, كما إنه, أي الطرح, يحمل النخبة مسئوليتها في تدهور الأوضاع, غير إن هذا الطرح نفسه يدفع في اتجاه واحد, هو أن الحل يكمن في محاولة دفع النخبة السياسية والمثقفة نحو ضمان استقلالية جهاز الدولة عن الصراع السياسي واستعادة الدولة الحديثة لهيبتها وكفاءتها بما يستعيد ثقة المواطن فيها, فهو يعود بنا إلي عنوان هذا المقال,' في البدء كانت الدولة'.